للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقيل الفرق بينهما أن الاجتناب لا يشق وإن تكرر، والفعل يشق إذا تكرر، وهذا قد يقدح فيه بأن في المجتنبات ما يشق تكرير اجتنابه، ألا ترى أن الصوم هو ترك الطعام، والشراب، والجماع، وتكرير حبس النفس عن شهواتها يشق؟

وقيل الفرق بينهما أن الفعل الواحد يكون تركا لأفعال كثيرة، وينافيها في زمن واحد، لو فعلت لما اتسع ذلك الزمن لها، والفعل الموقع بخلاف ذلك، إذ لا يمكن إيقاع أفعال (ص ٧٩) شتى في زمن يضيق عنها، فدل ذلك على [أن] الاجتناب والترك يتحقق فيه الاستيعاب، وإن ضاق الزمان، واتحد الأمر، بخلاف الأمر بالإيقاع.

وقيل الفرق بينهما أن النهي يدل على قبح المنهي عنه، والقبيح يجب اجتنابه أبدًا، والأمر يدل على الحسن، وقد يكون حسن لا يجب.

وقيل الفرق بينهما، أن العادة في التخاطب جارية بالتفرقة بينهما، فالنواهي يفهم منها الاستيعاب، بخلاف الأوامر، ألا ترى أن السيد إذا قال لعبده: لا تقابح، لا تؤذ الجار، إلى غير ذلك من أمثاله، لم يحسن من العبد أن يستفسره عن الاتحاد، والتكرار، بل يفهم من هذا استيعاب الأزمنة، ولو قال له أعط لفلان ثوباً، تصدق على هذا المسكين بدرهم، لم يفهم عنه الاستيعاب.

وقيل الفرق بينهما أن النهي كالنفي، والأمر كالإثبات، والناهي كالسالب لما أثبته الآمر، فإذا قال: صل، فقد أثبت الصلاة، وإذا قال لا تصل، فكأنه سلب ما أثبت، ومقتضى هذا أن يجري النهي على مناقضة الأمر، فإذا قال: صل فصلى صلاة واحدة، فقد خرج من عهدة الأمر، فإن لم يصلها اليوم، وصلاها بالغد كان ممتثلا، وهكذا في باقي الأيام، فقد صار في كل يوم يوقعها ممتثلا، فإذا نهاه اقتضى كون النهي سلباً للأمر، استيعاب الأزمنة في الاجتناب حتى تتحقق المناقضة بين الأمر والنهي، ويكون النهي يستوعب الأزمنة ضما واجتماعا، والأمر على البدل، والتنقل من يوم إلى يوم.

وقيل الفرق أن الأمر إثبات، وهو مأخوذ من المصدر، والمصدر لا يدل على قلة أو كثرة، كما تقدم، والنهي مأخوذ من النفي، والنفي يدل على الاستيعاب، وإنما دل النفي على الاستيعاب لأنه عدم محض، ولا تخصص فيه، فجعل الاستيعاب للأزمنة كصورة يتخيل منها الاختصاص، كما يتخيل في الإثبات الاختصاص من ناحية الصور، فإذا قال رأيت رجلا وقع الاختصاص برجل واحد، لما كان الكلام إثباتا، فإذا قال لم أر رجلاً، فقد أخبر أنه لم يوقع الرؤية، فأشار إلى عدم، والعدم لا يفعل في مثل هذا إلا باستناد، فإن لم يستند هذا النفي إلى استيعاب سائر الرجال، لم يكن له اختصاص برجل دون رجل، وهذا

<<  <   >  >>