التقدمة غير مخالفة لقصد الآمر في الحالين جميعا، وإنما يقع الشك في التأخير.
وقد استدل أصحاب التراخي بالقياس على الخبر، في كونه لا يفيد تعجيلا، إذا قلت: سيقوم زيد فإن هذا اللفظ، محتمل لقيام زيد معجلا، ومؤخرا، وهذا غير صحيح، لأنه قياس على اللغة، وقد منعناه. وأيضا فإن هذا خبر، والخبر لا يتضمن الإنجاز والأمر طلب، والاقتضاء يتطلب الإنجاز، وينافيه التأخير.
وأيضًا فإن فعل الحال يخبر عنه، ولا يؤمر به، وهذا يشعر باختلاف أحكام الأخبار والأوامر وأن وضعهما مختلف، واستدلوا أيضًا بالقياس على البر، كمن قال: والله لأدخلن الدار، فإنه لا يحنث بتأخير الدخول، وهذا أيضًا من نحو الأول، لأن قياس، ونحن منعنا من قياس لغة على لغة، فكيف بقياس لغة على حكم شرعي.
واستدلوا أيضًا بحجج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوقعه صلى الله عليه وسلم مؤخرا عن الأمر به، لأن الأمر به ورد في سنة ست من الهجرة، وحجة صلى الله عليه وسلم كان في سنة عشر، فقد أخر الحج عن فور الأمر أربعة أعوام، وما ذلك إلا لكون الأمر المطلق على التراخي.
وقد نازع الآخرون في هذا وقالوا لم يفرض الحج عليه صلوات الله عليه إلا في سنة تسع، وبسط القول في التعلق بهذا الأمر مبسوط في كتب الفقه.
ومما يلحق بهذا الفصل إيضاح معنى مشكل تصويره على بعض هذه المذاهب، وذلك أنا حكينا عن طائفة أنها تحمل الأمر المطلق على الفور، وتؤثم المؤخر، وبعض هؤلاء يرى أن الفعل إنما يجب إيقاعه في الزمن الثاني إذا لم يوقع في الأول بأمر آخر غير الأمر الأول، وهذا يقتضي كون الفعل قضاء حتى يوصف من أخر الحج سنة بلوغه فحج بعد ذلك بسنين تكون حجته قضاء، وهذا لم يطلقه أحد من الفقهاء.
وقد رأيت بعض أصحابنا يشير إلى تسليم المعنى، ويذكر أن العبارة هي المجتنبة خاصة ليشعر الفقهاء الفرق بين ما لم يفعل من العبادات المؤقتة، وبين المؤخر من العبادات المطلقة، وأشار أبو المعالي إلى فرق معنوي، فذكر أن الآمر بالأمر المطلق يقدر كأن أمره اشتمل على غرضين، إيقاع الفعل مطلقا، وتعجيل الفعل، فكأنه قال: حج في هذا العام، فإن لم تفعل ففي الذي يليه، فإذا حج في الذي يليه فهو مطابق للأمر الوارد، ولكنه مخالف لغرض آخر اشتمل الأمر عليه، وهو التعجيل في العام الأول، فوصفه بالامتثال من ناحية البدار للامتثال.