للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

على حسب مسالك الفقهاء، ولكنهم عنده لما كانوا ينقون القول النفسي، ويرون أنه لا أمر إلا الأمر النطقي اعتقدوا أن العرب وضعت قولها: قم، لتدل على معنيين تصريحا، وتلويحا، فالتصريح بحكم النص هو اقتضاء القيام، والتلويح بكم الإشعار وهو النهي عن السكون، ومجرى هذا كمجرى قوله تعالى: (ولا تقل لهما أف)، فإن تصريحه يقتضي النهي عن التأفيف، وأما ضرب الوالدين وشبههما لا تقتضيه صيغة القول "اف"، ولكنه يقتضيه بمفهومه ومعناه، وإن كان هذا عندهم أجلي مما نحن فيه، لأن هذا يسميه أهل الأصول مفهوم الخطاب، وهو عندهم كالنص.

وأما مثبتو الكلام النفسي فإنهم لا يتصورون فيه تواضع ولا استصلاحا، لكنه معنى ثابت في النفس محسوس، العلوم، والقُدُر، وقد علم أن العلم له تعلق بمعلوم، كما أن القدرة لها تعلق بمقدور، فكذلك الأمر في النفس له تعلق بمأمور به، وكما يكون العلم له متعلقان متلازمان، لا يصح أن يعلم أحد المعلومين دون الآخر، فكذلك الأمر النفسي يمكن أيضًا أن يكون له متعلقان متلازمان، أحدهما اقتضى الإيقاع، والثاني النهيعن الكف، فمتى قال: إن في النفس كلاما، وأثبت فيه أمرا، أو اعتقد مع هذا أن نفس الأمر بالشيء هو بعينه النهي عن ضده، أجرى هذا مجرى العلم المتعلق بمتعلقين متلازمين، كيمين وشمال، وفوق وتحت، فإنه كما يستحيل عنده أن يعلم الفوق ويجهل التحت، فكذلك يتسحيل عنده أن يتعلق الأمر النفسي باقتضاء فعل ولا يتعلق بالنهي عن تركه.

وأما من قال: إن في النفس كلاما، واعتقد أن الأمر بالشيء ليس هو النهي عن ضده، ولكنه يقتضي ذلك اقتضاء التضمن، كما ذهب إليه القاضي في آخر عمره، فهاهنا في تصور مذهبه إشكال، ولكن أبو المعالي جزم القول بأن هؤلاء يعتقدون أن الأمر النفسي يقارنه نهي نسي أيضا، فيكون وجود هذا القول النفسي الذي هو اقتضاء القيام، ويعبر عنه بقولك: قم، يتضمن وجود قول آخر في النفس يعبر عنه بقولك: لا تقعد، ويكون هذا القول الذي يعبر عنه بقولك: قم يتضمن هذا القول الثاني ويقارنه، حتى لا يوجد أبدا مفردا، ويجري ذلك مجرى الحياة والعلم، فإن العلم إذا وجد اقتضى وجوده الحياة، فكأن من أثبت القول النفسي اتفقوا على إثبات متعلقين، واختلفوا في المتعلق، فمنهم من وحده، وهو القائل: إن الأمر بالشيء هو نفس النهي عن ضده، ومنهم من ثناه فجعل لكل متعلق من هذين متعلقا يتعلق به، ولم يخالف أحد من مثبتي الكلام النفسي هذه المسالك، سوى أبي المعالي فإنه نفى التعدد في المتعلق والمتعلق به.

فصارت هذه الطائفة على ثلاثة أنحاء، منهم من يوحد المتعلق والمتعلق به وهو أبو

<<  <   >  >>