هو مراد المتكلم، بل ذلك موضوع إلى نفي أوصافها، ألا تراهم يقولون لمن أجاب بما لا يفيد: ما أجبت بشيء، ولمن أعطى حقيرا: ما أعطيت شيئا، لم يضعوا هذه العبارة لنفي الذوات، وإنما وضعت في مثل هذا لنفي الإفادة عن الجواب، ونفي الانتفاع بالعطية، ولكن الأوصاف التي وضعت لنفيها إذا تعددت وأمكن أن يراد أحدها دخل اللفظ الأجمال من هذه الجهة، فيمكن أن يكون المراد لا صلاة جازية لجار المسجد إلا في المجسد، ويمكن أن يكون المراد: لا صلاة كاملة، فيها التضعيف المذكور في الجماعة إلا في المسجد، وإجزاء الصلاة وصف من أوصافها، كما أن كمالها وصف من أوصافها، ويحتمل أن يريد المتكلم أحد الوصفين دون الآخر، ولا يتعين لنا ما المراد منهما، فصار مجملا، وهذه طريقة القاضي ابن الطيب واختياره.
وأما الطائفة الثانية فهم المنكرون للإجمال الصائرون إلى إلحاق هذا بما لا إجمال فيه، ولكنهم أيضا مختلفون في طريقة رفع الإجمال على مذهبين، كما اختلف من قبلهم، فمنهم من رأى أن وجود الفعل داخل في النفي بحق عموم اللفظ، ولكنه خص بدليل أن الرسوم لا يكذب، فبقي الخطاب متوجها لسائر أوصافه، من كماله وإجزائه، وهذا كإحدى طريقتي أهل المذهب الذي ذكرناه قبلهم، في أن اللفظ ظاهر موضوع لنفي الذات، ومعلوم أنها ثابتة، ومن هؤلاء من صار إلى أن الذات لم تقصد بالخطاب أصلا، حتى تفتقر إلى دلالة التخصيص بتقديم العلم بصدق الرسول، ولكنها موضوعة لنفي الوصفين جميعا بحق العموم على أصل القائلين بالعموم في المحذوفات والمنطوقات، كما بيناه على أصل الواقفية المنكرين له أصلا، ولا عن أصل المعممين المقصرين التعميم على الصيغ لا على المحذوفات.
ورأى القاضي أن المعميين أخطأوا في حمل هذا على العموم، وإن سلم لهم صحة أصلهم في المصير إلى القول بالعموم، واعتل بأن العموم إنما يصح دعواه فيما لا يتناقض، فأما إذا كان دعوى العموم يصير في معنى الصيغة تناقضا وتهافتا استحال دعوى العموم، وأظهر هذا التناقض بتقدير قدره يخفى تصويره إلا بعد تأمل، وذلك أنه رأى أن العبادة إذا قلنا: إنها لا تجزى، إنا بنفينا عنها الإجزاء نفينا عنها الكمال، إذ من المحال أن تكون صلاة لا تجزى، وهي مع هذا كاملة، فقد ثبت أن نفي الإجزاء يتضمن نفي الكمال، فيستغنى بنفيه عن التعرض لنفي الكمال، لأنه مما لا يقدر، وإذا نفينا الكمال خاصة عن العبادة، فقلنا: هذه صلاة غير كاملة، فإن هذا اللفظ يشعر بأنها جازية، إذ لا يقال: هذه صلاة كاملة في مثل من ترك التأمين، ورفع اليدين، والتسبيح في السجدتين، إلى غير ذلك