الذي يحسونه راجع إلى أن هذا الانطباع حدث مرة، ومعه إدراك ظاهر آزره وقواه، وحدث مرة وليس معه إدراك ظاهر، وإلا فالقوة الداركة واحدة، تدرك الشيء مرة وحدها، وتدركه مرة ومعها ما يعاونها، أو معها ما يطابقها.
وهذا لا ينكر إمكانه وجوازه عاقل، ثم بعد هذه القوة الثانية عندهم قوة ثالثة يسمونها المتخيلة، فيقولون: إننا نحس بعد هذا الانطباع تمكنا من تركيب ما تخيلناه، ونصوره على غير النظام الذي أدركناه، فنتخيل شخصا بصفة إنسان، وبصورة طائر، وهذا ليس في الوجود، فيكون انطباعا في الخيال، فليس إلا إثبات قوة متخيلة تركب من الصور ما شاءت، وتقايس يعضها ببعض، وتستعمل الحل والتركيب كيف شاءت، فهذه القوة الثالثة عندهم محلها التجويف الثاني من الدماغ، وهي التي يسمونها المفكرة، وهي التي يستخدمها العقل إذا حاول إدراك المعقولات، فإذا استعملت سميت بالنسبة إليه مفكرة، وهي متخيلة بالنسبة إلى القوة الحيوانية خاصة، وإنما تكون مفكرة بالنسبة إلى القوة الإنسانية، وهي العقل، وهذا أيضا يبطل عليهم جميع ما تقدم.
ويقال لهم: هذه أقرب إلى أن تكون هذه القوة الثانية التي سميتوها خيالية مما عارضناكم به، إذا قلنا: قد تكون الثانية هي الأولى على أصلكم، وذلك أن هذه القوة المتخيلة إنما يكون حظها انطباع الصورة، فتارة يكون ذلك لها بغير آلة، وتارة يكون بآلة وهي الحاسة الظاهرة، وهذا أيضا لا يدفع إمكانه عاقل. ثم أيضا تحقق معهم معنى الانطباع في جميع معنى القوى التي ذكروها، ويعاد التقسيم الذي قسمناه، حتى لا يتحقق للانطباع معنى.
ثم عندهم بعد هذه القوة قوة رابعة، وذلك أنهم يقولون: إن الإنسان يحس من نفسه إدراك الصورة الجزئية تارة، ويحس من نفسه إدراك معاني هذه الجزئيات تارة أخرى، وهذه المعاني لا تكون محسوسة، ألا ترى أن الشاة تنافر الذئب إذا رأته، وإن كان لم يؤذها قط، ولا شاهدت أذاه، ولكن فيه معنى ينافرها (ص ١٠٥) أدركته الشاة فهربت منه لأجله، وهكذا تجري إلى النبات المستلذ عندها، وليس إلا لمعنى أدركته من موافقة بينها وبينه، وهذا المعنى لا يقال: إنه مشاهد فتضيفه إلى البصر، ويفتقر فيه إلى الحس المشترك وإلى الخيالية على ما صورناه، فلابد من إثبات قوة رابعة، ويكون محلها آخر التجويف الثاني من الدماغ، يسمى هذه القوة قوة وهمية، وهي الحاكمة على الحيوان كله، ولها تنقاد البهائم وأشباهها من الناس، وهي معاندة للعقل، لأنها تأبى من الانقياد إليه إذا خالف متعلقاتها، ومن هذا تعرض الضلالات في أكثر الاعتقادات الدينية وغيرها، وهذا الوهم يأبى كل الإباء من الانقياد إلى التصديق بمعقول، لا جوهر، ولا عرض، ولا في مكان، ولا مفارق للعالم،