للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا مواصل. ولهذا الانقياد إلى الوهم ظلت المعضلة، ولو أجهد الإنسان جهده لما توهم ما وراء هذا العالم، ولا تخيله، لأنا ذكرنا أن الوهم إنما سلطانه على معاني جزئية في محسوسات جزئية، وما وراء العالم ليس بمحسوس فينظر في معانيه، وهذه القوة الوهمية تستخدم ما قبلها من القوى، لأنا أريناك أن حظها انتزاع معان من محسوسات جزئية، وقد افترقت إلى خدمة ما قبلها من القوى ليحصل ما هو بصدده.

والرد عليهم في هذه القوة مأخوذ من جميع ما قدمناه، ثم يقال لهم: لا معنى لإثبات هذه القوة، بل هي القوة المتخيلة، وأنتم ذكرتم أن القوة المتخيلة تركب ما ليس في الموجود، لعل هذا منه، أو تكون القوة الخيالية، ويكون معنى التوهم تكرر انطباع أذى الذئب إلى الغنم، فتنطبع صورة أذاه في القوة الخيالية انطباعا لازما لا يمحي، حتى يصير كالجزء من البدن في ملازمة هذا المعنى لهذه القوة، فيكون الطباع تنفر وتهرب، لأجل هذا لا لأجل أن هاهنا قوة أخرى تسمى وهيمة. ومما يؤكد هذا أن هذه الوهمية لا تحصل إلا بعد تحصيل محسوسات، فلو كانت معنى مستقلا بنفسه لم تفتقر إلى المحسوسات.

ثم عندهم بعد هذا قوة خامسة يسمونها الحافظة، ومحلها عندهم التجويف الثالث الذي في مؤخر الدماغ، وحظ هذه القوة حفظ ما تحصله الوهمية، فكأن الوهمية تقبل قبولا لا يدوم، وهذه تقبل قبولا دائما. فقد حصل أن المدركات جسمانية ومعنوية، فالجمسانية يختص بها من القوة الباطنة قوتان، الحس المشترك اختصاص قبول، والخيالية اختصاص دوام وبقاء، فالخيالية خازنة للحس المشترك صور الأجسام، وقوة وهمية تدرك معاني الأجسام إدراك قبول خاصة لا يستدام، والقوة الحافظة خزانة هذه القوة، فيكون الانطباع فيها دائما، وبقيت قوة وسطى بين الأربع، وهي القوة المتخيلة قبلها قوتان يستعملان في المعنويات.

والرد عليهم في هذه القوى على نحو ما تقدم حرفا بحرف، ومن عجيب أمرهم قطعهم على محال هذه القوى، حتى جعلوا محل الحس المشترك مكان كذا من الدماغ، وحس الخيال في آخر التجويف الأول من الدماغ، إلى ما سوى ذلك من تحكماتهم في هذه المحال التي ذكرناها عنهم، وهب أنهم يسلمون للأطباء ما يقولونه في صفة الأعضاء الباطنة والعروق، والأوراد، والشريانات، والعصب، والعضلات، إلى غير ذلك مما يحيلون فيه على المشاهدة عند تشريح بعض أجسام بني آدم، فما كان مغيبا يفقد لا محالة عند موت الإنسان قبل أن يؤخذ في تشريحه، كيف الحيلة في إدراكه والعلم به. هذا ولو كان الإنسان حيا، وكشف لأبصارنا عن باطن دماغه لما أبصرنا عندهم هذه القوى، لأنها عندهم مما

<<  <   >  >>