لا تعلم تلك القوة إلا بها، فإذا تعطلت الآلة تعطلت القوة، وهذا أيضًا مما يجوز ويمكن في العقول، وقد ذكرنا في كتابنا "المعلم" الحجة عليهم في هذا، وناقضناهم في دواء "المالنخونيا"، وهذا منه.
ثم إذا تقرر هذان الاختصاصان، ومعناهما، اختصاص النبات واختصاص الحيوان على الجملة، فإن من الحيوان الإنسان، قد اختص أيضا بخصيصة فارق بها النبات والحيوان البيهيمي، فنظروا فيها على زعمهم، فوجدوا الإنسان قد قرب من الاعتدال أشد من قرب النبات، وأشد من قرب الحيوان البهيمي، فاختص لأجل هذا القرب بهيئة وكمال اقتضت له أن تكون له نفس إنسانية، وهي نفس ثالثة حصلت له مع حصول النفسين الأخريين التي هي نفس النباتية والحيوانية، وهذه النفس التي تميز بها هي التي استحق بها أن تكون قوة من جهة ما يفعل بالروية والاستنباط، ومن جهة ما يدرك الكليات، فإن ما سواه من الحيوان والنبات لا يقع منه أفعال بالفكرة والروية، ولا يدرك حقائق كليات الأمور، فنظروا في هذه القوة على زعمهم فوجدوها نوعين: قوة عاملة، وقوة عالمة، ولربما يعبرون عن هذا فيقولون: قوة عملية، وقوة نظرية.
فأما القوة العملية فبها يكون سياسة البدن، والأخلاق، والتدابير. والقوة النظرية يكون بها الإطلاع على حقائق الكليات، وكأن هذا النفس له وجهان، وجه ملتفت إلى الأعلى، وهي المبادئ، والعالم العقلي، ووجه ملتفت إلى الأسفل وهي جهة البدن، ووصوا في كتبهم بأن تكون هذه النفس معرضة من جهة الأسفل لئلا تستولي عليها الطباع، وأحوال النفس الحيوانية فتكون مقهورة، فتظهر الأخلاق، وتقع الأفعال قبيحة، حتى إذا كانت كالمعرضة عن الأسفل والمقبلة على الجهة العليا استمدت منها الفضائل، وكانت قاهرة لطباع الإنسان، فظهر منه من الأخلاق الجميلة، والأفعال الجميلة ما يكون به فاضلا.
وهذه الجهة النظرية التي يسمونها القوة العالمة هي المطلوبة المبحوث عنها، وبسبها قدمنا ما قدمناه، وهي عندهم القوة العقلية، لكنهم زعموا أنه قد علم اختلاف حقائق الوجود المتصور، فمنه ما يكون وجودا بالقوة، ومنه ما يكون وجودا كاملا تاما يسمونه وجودا بالفعل، ومنه وجود بين هذين الطرفين، وتدريج بين هاتين الحاشيتين، ويسمونه وجود تمكين، ولهم فيها عبارات أخر، وهذا كالنواة، فإنه يميز فرقان ما