معنى يعقل، ويسألون عن سببها فلا يجدون لذكره سبيلا، ولو صح أن يعقل بعقل غير حال في، ولا قائم بي، ولا هو جزء من جملتي صح أن يتحرك بحركة هي كذلك، وصح أن يكون الجوهر أسود بسواد هو كذلك. وهذه تخاليط لو أخطر إليها دليل لنافرتها النفوس لكونها إحالة على مجهولات، واستمساكا بخيالات، فكيف ولا برهان يقوم لهم عليها؟.
ثم يقال لهم: هذا الذي رتبتموه من تقسيم الوجود في هذا العقل، لا يتحصل في ذلك أن النواة في حال كونها نواة كالحصاة في حال كونها حصاة، النخلة معدومة منهما جميعا عدما متساويا، وليس للنخلة وجود يشار إليه، وإنما هاهنا إمكان وتجويز خلق شيء آخر لم يخلق منه ذرة واحدة بعد، ولكن هذا الذي لم يخلق ذرة واحدة [منه] تأتي خلقه، وأمكن في محل دون محل، فعندنا أن ذلك بعادة أجراها الله سبحانه في خليقته وهو الحق، وإلا فما الفرق بين جواهر النواة وجواهر الحصاة؟ وعندكم ذلك أمر يرجع إلى الطباع وإلى المزاج، إحالة منكم على أمر مجهول، لم يقم عليه دليل، فلا معنى للعقل الهيولاني، وإذا بطل هذا القسم الهيولاني لأنه لا ينعقل له معنى، فكذلك القسم الثاني وهو الممكن، لأنه ليس بين الوجود والعدم مرتبة، فإن كان هاهنا وجود فسموه ما شئتم، ولكن نحن لا ننكر حدوثا بعد حدوث، ووجودا بعد وجود، وليس إلا أن الله سبحانه يخلق في الطفل معارف إعدادا ما، ثم إذا نهض في السن زاد فيه خلق معارض أخر، حتى تكتمل المعارف الضرورية، فإذا كملت خلق فيه فكرة واستنباطا من تلك العلوم الضرورية، وقدره على ذلك، كما يخلق فيه قدرة على أن يتحرك ويسكن حركات ضعيفة أو قوية، بحسب ما شاء أن يخلقه تعالى، فإذا فكر واستنبط بما خلق فيه من قدرة على الاستنباط، وخلق فيه من استنباط وفكرة، وبما خلق فيه من قدرة خاصة على ذلك على رأي قوم من الإسلاميين خلق فيه حينئذ معارف وعلوما على رأي قوم أيضا، أو فعلها العبد على رأي آخرين، على ما تقدم ذكرنا له في هذه الكتاب وفي غيره، ثم تتفاوت الناس فيما تفضل به عليهم من خلق المعارف والعلوم.
فتأملوا رحمكم الله هذه الصورة التي صورناها، وحكيناها عنا معشر المسلمين، هل هي في العقل متناقضة أو متهافتة؟ أو يستحيلها عقل سليم، فإذا أمكنت وأمكن ما قالوا لو سلمنا إمكانه، ولم يقم دليل على فساده كما أوردناه، فمن أين القطع والتصميم على أن الأمر ما صوروه، وهم قد سلموا أيضا أن هذه العلوم إنما نستفاد من جهة أخرى، وليست هي من تلقاء أنفسنا، ولكنها مستفادة من المسمى عندهم بالعقل الفعال، فما المانع من أن تكون مستفادة من الله سبحانه الذي أبدع العقل الفعال، والعقل الفعال عندهم لا يتغير في