فأما الوجه الأول فإن العموم إذا خرج منه بعض مسمياته بالتخصيص، فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يخرج مسمياته حتى لا يبقى منه إلا واحد، أو يخرج منه مسمياته بالتخصيص حتى يبقى منه أقل الجمع ـ على القولين في أقل الجمع، وهو اثنان أو ثلاثة ـ
فأما إن خرجت مسمياته بالتخصيص حتى لا يبقى منه إلا واحد، فالمعروف من مذهب سائر المتكلمين في هذا الفن أن اللفظ يتناول ذلك الواحد الباقي على جهة المجاز، إذا كان اللفظ العام صيغة من صيغ الجموع، لأجل أن الجمع في أصل وضع اللغة لا يعبر به عن الواحد، فإذا صار هاهنا عبارة عن واحد صار مجازا.
وقد حكى القاضي ابن الطيب الاتفاق على هذا، ولكن أبا حامد الإسفراييني خالف فيه، وذهب إلى أنه يبقى في تناوله للواحد على الحقيقة، احتجاجا منه بقوله تعالى:(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وبقوله تعالى:(فقدرنا فنعم القادرون)، فأخبر عن نفسه تعالى بلفظ الجمع، وهذا منصوص لأهل اللسان في هذا المعنى المشعر بالتعظيم خاصة، فلا يجري هذا في حقائق الجموع.
وأما إن خص العموم حتى بقي منه أقل الجمع، فهل يبقى في تناوله لأقل الجمع فما زاد عليه على الحقيقة أم لا؟ هذا مما اختلف الناس فيه:
فقال قوم: إنه يبقى في تناوله لما سوى المخصص على الحقيقة.
وذهب إليه جماعة من طوائف الفقهاء، وقال قوم: بل يبقى في تناوله إياه مجاز، ذهب إليه القاضي ابن الطيب في أحد قوليه، وبه قال مشاهير المعتزلة.
وذهب قوم إلى أنه يبقى على الحقيقة إن كان التخصيص بدليل متصل كالاستثناء والشرط، وإن كان خص بدليل منفصل بقي مجازا، وإلى هذا رجع القاضي ابن الطيب، وقال به الكرخي وغيره.
واختار أبو المعالي أنه مشترك بين الحقيقة والمجاز، فمن حيث رفع اللفظ عن بعض مسمياته يتصور المجاز، ومن حيث أبقاه على بعض مسمياته يتصور الحقيقة.
وبسبب هذا الاختلاف أنك قد علمت أن معنى الحقيقة استعمال اللفظة فيما وضعت [في] الأصل له، ألا ترى قولهم: حمارا لهذا الحيوان النهاق، فإنه لفظة حقيقة مستعملة في أصل ما وضعت له، وإذا قالوا للرجل البليد حمار، فإنه مجاز منقول عن أصل ما وضع له في اللغة وهو الحيوان النهاق. والمجاز هو المنقول عن أصل وضعه، وقد حصل هاهنا نقل