وأما المفرقون بين التخصيص المتصل والتخصيص المنفصل، فإنهم يلتفتون إلى ما كنا أشرنا إليه في باب الاستثناء، حيث قلنا: إن الاستثناء كجزء من الكلام، والاستثناء والمستثنى منه كالكلمة الواحدة، وكأن الاستثناء بعض أجزاء هذه الكلمة، فقولهم: عشرة إلا واحد، هو قوله: تسعة، وكأن مجموع اللفظتين: الاستثناء والمستثنى منه وضع في أصل الوضع لإفادة هذه الجملة التي هي التسعة، كما وضعت التسعة لإفادتها، والاستثناء كالسين من التسعة أو العين منها، وهذا يقتضي أن التخصيص بالاستثناء لم يغير حكم الصيغة، وإذا لم يغيرها فهي حقيقة. والشرط المتصل بالكلام يتصور فيه ما صورناه في الاستثناء، فهذا سبب اختلاف هذه المذاهب.
وأما الوجه الثاني وهو العمل ببقية ما اشتمله العموم والاستدلال بالعموم المخصص فيا بقي لم يرد فيه تخصيص، فإن كان من زعم أن التخصيص لا يخرج الصيغة عن حقيقتها إما مذهبا مطلقا، أو على ذلك التقييد الذي قيدناه، فإنهم يرون التمسك بالعموم واجبا، والاستدلال به في بقية المسميات صحيح.
وأما الصائرون إلى حمله على المجاز في بقية المسميات فهم مختلفون في الاستدلال به، فالمعتزلة تمنع منه، ويرونه بالتخصيص صار مجازا ولحق بالمجملات، لأجل هذا التغيير الذي دخله، لأن اللفظة لم تستعمل على أصل وضعها، ولم يرد بها ما وضعت له، وقد دل الدليل على انها لم يقصد المتكلم بها ما وضعت له، وغيره مما لو تضع لم يقم عليه دليل يوجب إلحاقها بالمجملات التي لا يعلم المراد بها ولا يستدل بها، وإن كان مجازا.
ومن تتبع استدلال الصحابة رضي الله عنهم على بعضهم بعضا في الفقهيات ألفاهم يستدلون بعمومات قد خصت، ووجد من ذلك ما لا يحصى كثرة، كاستدلال فاطمة رضي الله عنها بقوله تعالى:(يوصيكم الله في أولادكم)، وقد علم أن هذا العموم خص بأن قاتل العمد، والعبد لا يرثان، ولم ينكر عليها الاستدلال بالآية، وإنما أجيبت بتخصيص آخر، وهو أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون، إلى غير ذلك مما اشتهر ولا يخفى عن باحث عنه. وكذلك من بعدهم من العلماء. وعموم لم يخصص عزيز وجوده في الشرع، والذهاب على أنه لا يستدل بالعموم إذا خص تعطيل لجل أدلة الشريعة، وهذا واضح.
وفي هذا كفاية في ذكر الخلاف في هذا الباب وموقع الخلاف، وسبب الخلاف، ووجوب العمل، فكل وحد من هذه الأركان قد ذكرنا فيه لباب ما يقال فيه، والله ولي التوفيق.