فليعلم أن النبي من جملة البشر، يجوز عليه ما يجوز عليهم، فإذا قال: إن الله تعالى عصمني من أمر يجوز على البشر، وأقام على صحة ما قال دليلا وهو المعجزة، ارتفع الجواز ووجب القطع على صدقة فيما قال. فأصل هذا الباب أن يجوز على الرسول كل شيء يجوز على البشر، إلا ما ذكر أن لا يجوز عليه، وأقام المعجزة دليلا على صحة ما قال. فقوله: لا يجوز عليَّ كذا وكذا خبر متردد بين الصدق والكذب، فإذا أقام المعجزة تعين في أحد الجائزين وهو الصدق، والمتبع على هذا ما ذكره حين الاستدلال بالمعجزة، فإن قال: إن الله تعالى عصمني أن يقع مني كذب في البلاغ عنه، أو في شيء من الأحاديث التي ليست ببلاغ عن الله سبحانه، وأني لا يقع مني كذب في ذلك، لا سهو ولا عمد، ولا تقع مني معصية أعصي بها الله صغيرة ولا كبيرة، فلو صرح بجميع هذا في التحدي لم يختلف أحد من مثبتي النبوءة أن ما قال حق، ولا يمتري أحد في أنه معصوم عن جميع ذلك، كما لو قيد في استشهاده أحد ما ذكرناه من هذه الأنواع لم يختلف في قصر العصمة على ما ذكرناه، ويبقى ما سواه على التجويز. فجميع مسائل هذا الباب إلى هذا يرجع، فقد علم قطعا أنه إنما يذكر أنه رسول من قبل الله سبحانه، أرسله ليبلغ عنه ما يخاطب به العباد، وأنه صادق في أن الله أرسله ليبلغ ذلك بلاغ صدق وحق، وأنه لا يبلغ عنه تعالى إلا حقا، فلم يختلف المسلمون في عصمة الرسول عن الكذب في هذا النوع قصدا أو عمدا إليه، فأما وقوع خبر من هذا النوع على خلاف ما هو عليه سهوا وغلطا، وعلى بدار اللسان إلى لفظ بغير قصد، فهذا موضع اضطراب.
أما أبو إسحاق الإسفراييني فإنه منع ذلك، وأشار إلى منعه من ناحية دلالة المعجزة، ورأى الدلالات العقلية، والدلالة العقلية لا تدل في حال دون حال، ألا ترى أن الإحكام للأفعال يدل على علم المحكم على الإطلاق، ولا يختص بحال دون حال، وكذلك الفعل يدل على الفاعل، ولا يختص ذلك بحال دون حال، فكذلك المعجزة تدل على صدق الرسول دلالة مطلقة، ولا تختص بإحالة كذب عليه دون كذب.
وذهب القاضي إلى خلاف هذه الطريقة، ورأى أن المعجزة في معنى الدلالة الوضعية الاصطلاحية والدلالة الوضعية إنما تدل بحسب ما وقع عليه التواضع والاصطلاح، فالرسول إنما استشهد بالمعجزة على أنه لا يتعمد الكذب على الله سبحانه وأظهر الباري سبحانه