الغسل لا المسح، وشذ قوم فذهبوا إلى أن الفرض فيهما المسح، وانفرد الطبري فقال بالتخيير بين هذين المذهبين، فإن شاء المتوضئ عنده غسل وإن شاء مسح.
فيحتج من ذهب إلى أن فرضهما المسح بقوله تعالى:(فاغسلوا وجوهكم وأيدكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) ـ بالخفض ـ في قوله: (وأرجلكم) على قراءة النحويين وابن كثير وأبي بكر، والخفض عطف على الرأس، والرأس منصوص على مسحه، فكذلك ما عطف عليه وهو الرجلان.
فيجيب جماعة الفقهاء القائلون بأن الفرض الغسل خاصة بأن الخفض إنما وقع هاهنا على الاتباع والجوار، والخفض على الاتباع غير مستنكر، والعرب تتبع لفظة إعراب لفظة تجاورها، وتغير حكم الإعراب طلبا لاسترسال الكلام، وانبساط اللسان في التكلم، ومرور الصوت على السمع على مجرى واحد لا يتنافر على السمع باختلاف حركات الإعراب. ألا ترى وقد حكى الخليل عنهم أنهم يقولون: هذا حجر ضب خرب ـ بخفض لفظ "خرب" ـ إتباعا لإعراب اللفظة التي قبلها، وهو قوله "ضب" ـ بالخفض ـ ومعلوم أن الضب لا يخرب وإنما يخرب جحره، فالأصل أن يقال:"خرب" ـ بالرفع ـ نعتا للجحر الذي هو مضموم، وأنشدوا في هذا بيت امرئ القيس في قصيدته المعلقة:
كأن ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل
وقد أجيب هؤلاء عن هذا التأويل، وهو حمل الآية على خفض الجوار بأربعة أجوبه:
- أحدهما: أن ذلك إنما حسن في كلام علم السامع قطعا مراد المتكلم به ولم يلتبس معناه، لأجل تغيير إعرابه، ولهذا قالوا: هذا جحر ضب خرب، للعلم الضروري بأن الضب لا يوصف عندهم بالخراب في مثل هذا الكلام، وإنما يوصف بالخراب الأحجار والأبنية، وهكذا قوله "في بجاد مزمل" معلوم أن المراد بهذا كون كبيرة الأناس هو المزمل لا البجاد، لأن البجاد كساء مخطط بخطوط سود وبيض، وهذا لا يوصف بأنه يزمل، لكنه مما يزمل به.
وقوله تعالى:(وأرجلكم) ليس في العقول مما يحيل التعبد بمسح الرجلين دون غسلهما، فلا يصح خفضهما على الجار، لأن في ذلك تلبيس معاني الكلام وإغراء السامع بأن يفهم من الكلام غير المراد به، كما لبس هذا على قوم وأغراهم حتى ذهبوا إلى أن الفرض مسح الرجلين.
وجواب ثان وهو أن الجوار إنما ورد فيما ليس فيه حرف عطف، وأما مع دخول حرف