وإنما نيطت هذه المسألة بما نحن فيه لأجل أن أبا المعالي ذكر أن كل تأويل عطل اللفظ لا يسمع، ولو عضد بدليل، فآخر ما أجرى من هذه المسألة كفارة المظاهر بالإطعام، فإنه رأى أن مذهب أبي حنيفة إذا صار إلى أن المظاهر إذا لم يقدر على الإعتاق ولا الصيام، فإنه يطعم طعام ستين مسكينا واحدا كما قدمناه، وظن به أنه علق الحكم بلفظ محذوف، وعطل اللفظ المنصوص من قوله:(ستين مسكينا) على ما بيناه فيما قدمناه، فكذلك ما نحن فيه.
زعم بعض من ينتصر لأبي حنيفة أن تأويل الحديث فيمن اشترى مصراة، واشترط غزارة اللبن، وإثبات هذا الاشتراط محذوف علق الحكم به، وعطل ظاهر اللفظ، وهو صلى الله عليه وسلم إنما علق النهي على التصرية، وبنى عليها الحكم في من اشتراها، فمن هذه الجهة انخرطت هذه المسألة في سلك ما نحن فيه.
وأما من رأى أن أبا حنيفة إنما لم يقل بهذا الحديث لأجل مخالفته لقياس الأصول، لأن فيه إثبات غرامة مقدرة عن متلفات مختلفة، فلبن الناقة ليس كلبن البقرة، ولبن البقرة ليس كلبن الشاة، ثم مع هذا الاختلاف جاء الحديث بأن على متلف هذه الألبان المختلفة صاعا من تمر. وقد اعتذر عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شرع هذا رفعا للخصام والتشاجر.
وقد قال عيسى بن أبا، لا يصح أن ترد الشاة دون لبنها المبيع معها، ولبنها المبيع معها لا يتميز عن اللبن الذي حدث [أثناء] ملك المشتري، فلما لم يتميز هذا من هذا، ووجب رد بعض هذا الذي لا يتميز، وخيف من التشاجر والاختلاف فيه، قطع التشاجر برد صاع عوض الكل.
(ص ١٨٠) إلى هذا أشار عيسى بن أبان، وإن كان لم يبسط التعرض لذكر الخصام، وإنما بسطه غيره فقال: ولا يستنكر هذا في الشريعة، ألا ترى أن الجنين إذا ضرب بطن أمه فألقته، فـ"إن النبي عليه السلام حكم فيه بالغرة"، ولم يفرق بين أن يكون الجنين المطروح ذكرا أو أنثى، مع اختلاف دية الذكر والأنثى، وإنما ذلك لرفع الخصام.
وكذلك جاء الشرع في الموضحة، وهي الجرح الذي كشف عن العظم بأن فيه نصف عشر الدية، ولم يفرق بين كون هذا الجرح صغيرا أو كبيرا، فقد جاء في الأصول إثبات غرامة واحدة مع اختلاف حال المتلف.
وقال أصحاب أبي حنيفة ايضًا في مخالفة الأصول: غرامة التمر عن اللبن، والأصول تقتضي ألا يغرم المتلف خلاف ما أتلف. وقد اعتذر عن هذا بأن غرامة اللبن توقع في الربا والتفاصيل في اللبن، فعدل عن ذلك لأجل الاحتياط للربا إلى أن غرم خلاف الجنس.