وأشار الطحاوي إلى طريقة أخرى في التأول تشعر بأنه يرى الحديث منسوخا فقال: غرامة اللبن، وهو دين في ذمة المشتري، والتعويض عنه بثمن في ذمته دين بدين، وقد نسخ جواز بيع الدين بالدين. فكأنه يشير إلى أن الدين بالدين كان جائزا، والحديث إنما ورد وقت جوازه، وهذا من الطراز الذي تقدم في غير هذه المسألة، حيث ذكرنا أنه لا يحسن أن يضاف إلى الشرع أمور بالتقدير، فإذا صادفنا الشرع على حكم فنحن على أنه لا يكون إلا كذلك، ومن أثبت خلافه لأجل الإمكان، ورأى ما نحن عليه ناسخا يضاهي من حاول نسخ ما نحن عليه بإمكان أن يكون قد نسخ. وهذا قد فرغ من الكلام عليه في مسألة إسلام المشترك وتحته عشرة نسوة.
ومما يعتد به من أركان النظر في هذه المسألة أن أبا حنيفة يسلم أن من اشترط غزارة اللبن ثم لم يجده غزيرا، فإن له مقالا، فنقول نحن: إذا حفل شاته وصراها فلم يحلبها أيام قصدا لتغليط المشتري والتغرير به، حتى يظن أنها غزيرة اللبن، فإن هذا الفعل يحل عند العقلاء محل قول البائع: أبيعك إياها بشرط أن لبنها غزير، وهل بين هذا فرق وبين من اشترى عبدا وشرط أنه سالم الأصابع، فوجد أصبعه قد قطعت، أشترى عبدا ولم يتعرض لذكر أصابعه فوجد أصبعه مقطوعا، فإن المشتري له الرد سواء سكت أو نطق، وإنما كان له الرد وإن سكت، لأن غالب العبيد [صفتهم] السلامة من قطع الأصابع، فالمشتري إنما دخل على شراء عبد سالم الأصابع جريا منه على المألوف الذي هو الأكثر في بني آدم، فكذلك مشترى الشاة المصراة، وإن سكت عن غزارة اللبن، فإنه دخل على أن الغالب أن الشاة لا تصري، وأن الذي في ضرعها هو المعتاد من لبنها، فسكوته هاهنا كنطقه.
وقد سلم أبو حنيفة هاهنا أن الاشتراط نطقا يوجب للمشتري مقالا، فكذلك السكوت الذي يحل محل المقال، ولكن يلزم على طرد هذا التعليل أن البائع لو لم يحفلها، وإنما اشتغل عن حلابها أياما ثم باعها غير قاصد للتدليس، ولا كان تاركا حلابها قصدا للتغرير للمشتري أن يكون للمشتري مقال في هذا أيضا على ما قررناه من أن السكوت في مثل هذا يحل محل النطق.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة فطرد بعضهم هذا الأصل، ورأى أن للمشتري مقالا، وأباه بعضهم، ورأيت ابن القصار من أصحابنا هرب من طرد، وقال: لم يكن الرد للمشتري لأجل أن اللبن جاء بخلاف ما ظن، ولكن لأجل أن البائع دلس عليه، وفعل ما لا يحل، ورأى أن الاعتماد على التعليل بالتدليس يمنع من أن يوجه علينا ما وجهه أصحاب أبي حنيفة [إلى] من تابع علف بقرته حتى انتفخ بطنها فقدره المشتري جنينا، أو من بائع