فيقول له الآخرون: هذا تعليل وتأويل فيه تخصيص للفظ، وتخصيص اللفظ تعطيل لبعض المسميات، وتعطيل بعض مسميات اللفظ كتعطيل جملته، وقد قدمنا أن كل تأويل يؤدي إلى تعطيل اللفظ فإنه لا يسمع ولا يقبل، ومن هذه الجهة حسن إدخال هذه المسألة في هذا الكتاب وإيرادها في هذا الباب، لأن أبا حنيفة تأول تأولا، وعلل تعليلا استنبطه من لفظ، عاد ذلك لتعطيل بعض مسميات اللفظ، وذلك [أن] قوله عليه السلام: "لا تبيعوا البر بالبر" جملة مفيدة، مستقلة بنفسها، لو اقتصر عليها لأفادت تحريم بيع البر بالبر على أي حال (ص ١٨٥) كان قليلا أو كثيرا، متساويا أو متفاضلا، لكنه لما قال:"إلا كيلا بكيل"، استثنى من هذا العموم ما تساوى كيله خاصة، وبقي الباقي على عمومه في المنع، فدخلت الحفنة بالحفنتين في المنع بحق هذا العموم، فإذا عاد يستنبط من اللفظ علة تجيز بيع الحفنة بالحفنتين صار مخصصا للفظ بتأويل وتعليل استنبطه منه. وقد تقدم بياننا لمنع تخصيص اللفظ لعلة مستنبطة منه، إذ التعليل إنما يكون بعد فهم معنى اللفظ، والإحاطة بمضمونه في اللغة.
ولكن أبا حنيفة يعتذر عن هذا بأن المقصود من الحديث تعليم حكم التعليل، وإنما ورد التحريم فيه على جهة التبعية، والوصلة إلى النطق بالمقصود، ويتنزل ذلك منزلة قوله عليه السلام:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، و"لا عمل إلا بنية"، و"لا صلاة إلى بطهور"، فإن الجملة الأخيرة المستثناة لا المستثنى منه، وهو النفي، وإنما ورد النفي ليتوصل به إلى النطق بما بعده من إثبات الطهارة، وتعليم الحاجة إليها في الصلاة، وإلى فاتحة الكتاب، وإلى غير ذلك من أمثاله، وإذا ثبت أن هذا المقصود: فقوله: "لا تبيعوا البر بالبر" غير مقصود، وما ليس بمقصود لا يدعى فيه العموم.
وقد تقدم لنا نحن مثل هذا في قوله:"فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر"، ورددنا على أبي حنيفة، فقوله: إن الخضراوات [لا تزكى] ترك لعموم قوله: "فيما سقت السماء العشر"، بأن هذا الحديث: المقصود منه تعليم ما يعشر وما يؤخذ منه نصف العشر، لا تعليم ما يزكي وما لا يزكي، وما ليس بمقصود لا يتعلق بعمومه.
فهذا نهاية ما يعتذر به أبو حنيفة عن هذا الحديث، ولكنه يخالف فيما اعتقد من هذا، ويقال له: بل المقصود الجملة الأولى، وهي قوله:"لا تبيعوا البر بالبر"، وإنما ما استثني