كتمانه لما قدمناه، وهذا مما علم أنه لم يكن، ولا أنه أيضا كان ثم اندرس، ولم تكن خلافة أبي بكر أيدت بشوكة وتغلب، كيف وإلى الآن متحزبون لعلي رضي الله عنه ولخلافته، وهم غير مقهورين ولا محمولين على الكتمان؟.
وهكذا كان الأمر فيما قيل، ولو اتفق سبب يحمل على الكتمان لم يعم ذلك سائر الأقاليم، و [من] قد رأى نقل السير وما دون منها، وما ناقله الناس فيها، علم صحة ما قلناه من مقتضى العادة في مثل هذه المسألة.
وأما قول النصارى: إنكم تزعمون أن عيسى صلوات الله عليه تكلم في المهد، ونحن أقعد منكم وأقرب إلى الاطلاع على هذا، ثم ها نحن لا نعلمه، وهو مما يجب أن يشتهر، فيقال لهم: لو تكلم طفلا في المهد بحضرة الخلق العظيم لوجب أن يشتهر كما قلتم، ومتى ورد آحادا كذب إذا كان الخبر مما لا يندرس، وممكن في العقول أن يكون عيسى تكلم بحضرة آحاد، واطلع الله سبحانه عليه، وأخبرنا نحن به على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز، كما أخبرنا رسوله بكلام طفلين آخرين في المهد اطلع الله سبحانه على ذلك وأوحى به إليه، ولكنا لا نقطع على كلام هذين الطفلين الآخرين، كما نقطع على كلام عيسى عليه السلام، لأجل أن كلام عيسى ذكر في القرآن ونحن نقطع على صحته، وكلام الآخرين وإن ذكره البخاري وغيره من أهل الصحيح فلا يبلغ القطع واليقين مثل كلام عيسى صلى الله عليه وسلم، مع أن كلام هذين الآخرين لا يقطع على كذب الرواة فيه، وإن نقلوه آحادا، لأنه وإن كان من العجائب فهو مما يصح أن يندرس، ومثل هذه العجائب متى لم تتماد الدواعي إلى نقلها، فإنها تضمحل وتندرس، أو ينقلها الآحاد، وكلما تقادمت العصور والأزمنة استحكم الاندراس للأخبار.
وأما انشقاق القمر، وإن كان الباري سبحانه تكلم به، كما أجبتم بكلام عيسى، وهو أيضا مما يجب أن يشتهر، فما باله لم يشتهر؟ فإن هذا الاعتراض والمحافظة على الأصل الذي قررناه أدى الحليمي إلى أن تأول القرآن، وقال: معنى: (وانشق القمر)، أنه ينشق، وقد يعبر عن المستقبل الكائن عن قريب، فلابد بصيغة الماضي الذي وقع، وتقضي تأكيدا وتحقيقا لوقوعه، ألا ترى قوله سحبانه:(أتى أمر الله فلا تستعجلوه)، معناه سيأتي، وهذا معنى قوله:(اقتربت الساعة وانشق القمر)، أي اقتربت الساعة وانشقاق القمر.