للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهاهنا عبارة ثانية يطلقونها، فيقولون: خبر الواحد يوجب العمل، ورأى أبو المعالي أن في هذه العبارة تساهلا، لأن نفس الخبر لو أوجب العمل لعلم ذلك منه، فيصير حينئذ الخبر قد استفيد منه علم بمعلوم ما، وخبر الواحد لا يثمر علما على حال من الأحوال، وإنما وجب العمل عند سماعه بأمر سواه، وهو الأدلة التي نذكرها فيما بعد.

وهذا الانتقاد في هذه العبارة لا يبلغ مبلغ الانتقاد في العبارة الأولى، لأن قولهم في خبر الأربع أنه خبر واحد، كالمخالف للغة حسا وضرورة، على مقتضى تسمية الواحد واحدا في اللغة، وقولهم: خبر الواحد يوجب العمل، ليس بتصريح بالدال على الوجوب، وإذا أمر الشرع بالعمل بخبر الواحد، حسن أن يقال على مقتضى اللغة خبر الواحد يوجب العمل، ولكن من أين قيل: إنه يوجيه؟ ليس في العبارة تصريح به نصا، والأمر في هذا قريب، وإنما نبهناك على تفاوت مراتب الانتقاد في هاتين العبارتين.

وأما الوجه الثاني وهو الكلام على ثمرة خبر الواحد فقد تقدمت الإشارة إليه مرارا، وذكرنا مذهب النظام وأنه يراه قد يقع العلم الضروري به، وحققننا مذهبه في ذلك.

وقد ذهب ابن خويز منداد إلى إطلاق القول بأنه يوجب العلم، وأضاف هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه، وذكر أنه نص عليه، ورأيته أطال في كتابه الكلام على هذا المذهب.

ولباب ما يتحصل من مذهبه فيه أنه يراه يوجب العلم الضروري، ولكنه يرى مراتب الأخبار مختلفة تواترا كانت أو آحادا، فيرى أن أعلى مرتبة في الأخبار المتواترة ما تحدث به جميع الناس، ككون بغداد بلدا معمورا، ومكة بلدًا محجوجا إليه. ويلي هذه المرتبة من أخبار التواتر ما لم يتطابق الناس على الحديث به، ولكن إنما حدث به قوم لا يحصرهم عدد كالخبر عما يجري في بعض البلاد بين أهلها من العظائم أو ما في معنى ذلك.

ويرى خبر الواحد متفاوتا أيضا، فمنه ما اشتهر وانتشر كما يقع في بعض الأخبار التي خرجها أصحاب الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه ما لم يشتره مما قصر على روايه، وهذا هو المرتبة الأخيرة في الأخبار.

ويرى أن خبر الواحد لا يقع العلم الضروري به على الإطلاق، دون مضامة أسباب تقويه وتعضده، حتى يثمر الدق ضرورة، ككون راوي الخبر محصلا معروفا بالصدق في أحاديثه، منتفيا عنه مظان التهم في الأخبار، من كونه لا يجر بالخبر نفعا إلى نفسه أو إلى من يتهم عليه ولا يدفع بذلك ضرا ولا غرض له يسهل الكذب عليه. فمجموع أمثال هذه الأحوال يراها كالقرينة المضامة لخبر الواحد المقتضية للعلم الضروري.

<<  <   >  >>