للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأبهم فرق ما بين مذهبه وبين مذهب النظام، فإنا كنا أشرنا إلى أنه يرى وقوع العلم بخبر واحد عند هذه القرائن، ولكنا مثلنا القرائن هناك بمثل هو أعلى طبقة من هذا الذي حكيناه عن ابن خويز منداد، وقلنا: إن الرجل الرئيس الملحوظ بعين الجلال والكمال في النفس، المحاذر مما يقدح في حفظ الرتبة، إذا خرج من داره حاسرا رأسه، حافيا، يضرب بيد على أخرى، وعبرته لا تكف، مسترجعا، حزينا، يخبر بموت ولده، فإنه يعلم ضرورة صدقه، وذكرنا هناك أن أمثال هذه القرائن ربما دلت على الفجعة بمحبوب على الجملة، وإن كان لم يصحبها نطق ولا إخبار، ونبهناك على أن الخبر قد يستغنى عنه في أمثال هذه الأحوال.

وأما العدالة وانتفاء الأغراض، فمجرد هذا لا يستقل قرينة في إثمار العلوم الضروري (ص ٢٠٣)، هذا مما لا أظن النظام يذهب إليه عند من حكى عنه أنه يرى وقوع العلم بخبر الواحد عند القرائن.

وأنت ترى فرق ما بين المذهبين، هذا يرى التجرد من القوادح في الخبر كالقرينة المثمرة للعلم، والعلم لا يقتصر على مجرد التجرد من القوادح، بل يعتبر وجود قرائن حسية على ما أخبرناك به.

وقد جعل ابن خويز منداد أحد شواهده على أن خبر الواحد يقع به العلم أن الإنسان يضرب الباب على صديقه فيفتح له الخادم الباب، ويقول: قد أذن لك في الدخول فادخل، فيقع له العلم الضروري بصدقها. وكذلك إذا زفت إليه العروس وأخبره بعض أهله أو أهلها، أنها التي عقد النكاح عليها، فإنه يعلم صدق ذلك ضرورة، وأراد أن يجعل وجود هذه الأسباب لها قرائن مثمرة للعلم دالة على التجرد من طريق التهم في قرينة أيضا تثمر العلم. فهذا تحقيق مذهب الرجل، قد كشفناه لك.

وذهب قوم إلى أن خبر الواحد يوجب العلم الظاهر دون الباطن.

فأما الرد على هذه المذاهب فإنا كنا قدمنا في الرد على النظام ما يغنيك عن إبطالها بوجوه أخر، فاعتمد على ما قدمناه.

ويخص ابن خويز منداد القائل بما حكيناه من أن خبر الواحد يثمر العلم على الإطلاق، وقد حكي هذا المذهب عن ابن حنبل أيضا، بأن تقول له: لا أحد من الآحاد أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب عقلا، وسمتا، وهمة، وحكمة من الرسل صلوات الله عليهم، ونحن لم نصدقهم إلا بعد إقامة المعجزات على تصديقهم، ثم بعد وقوع المعجزات لم نعلم صدقهم، وإنما علمناه بالاستدلال، ولهذا اختلف العقلاء فيهم؛ فمنهم من آمن،

<<  <   >  >>