للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومنهم من كفر، ولو كان معلوما ضرورة ما اختلف العقلاء فيهم.

وقد أشار هو إلى الانفصال عن هذا الإلزام، بأنه يرى أن من القرائن تجرد الخبر عن التهم، وقد يتهم الرسول في دعوى النبوة بالرغبة في الرياسة والطاعة، فلهذا افتقر إلى المعجزة. وهذا يبطل عليه، ولو فرضنا الحال في مدع للنبوة، وقد علم ضرورة من قرينة حاله أنه لا يطلب علوا في الأرض ولا فسادا. فإنا لو فرضنا هذا لم نعلم صدقه حتى يأتينا بمعجزة، ويقال له: قد رفعت عنك المعجزة، وعند كل مسلم التهمة بالحرص على الرياسة، فيلحق خبرهم بخبر من لا يتهم، ويقع به العلم الضروري، ولو اتفق أن يسمع خبرهم من لا يخطر له التهمة بطلب الرياسة على بال لوجب على أصلك أن يعلم ضرورة صدقهم، وهو لا يعلمه حتى يأتوا بمعجزة تدل على صدقهم.

وها نحن نرى المدعين للحقوق يردون على القضاء، كعدد الوبل في سائر الأعصار وفي سائر الأمصار، ولو ادعى أعبد أهل الزمان وأزهدهم بفلس على أرذلهم ما أعطى بدعواه، ولا وقع العلم بصدقه، ولكن مراتب الظنون تختلف في القوة والضعف حتى يكون منها ما يكاد يلحق بقوته العلم الملزم به، ولكن النفس مع هذا ملتفتة إلى التجويز والتشكيك، فمهما رأيت في نفسك في آحاد الصور من دعوى مدع، أو خبر مخبر ما يرتاب منه بصحة ما قال ابن خويز منداد، فاعلم أن ذلك ظن بلغ في قوته أعلى مراتب الظنون، فلا تغلط فيه فتختلط عليك الحقائق.

وقد حكينا عنه رحمه الله أنه قسم الأخبار على المراتب التي ذكرناها، وإذا كان جميعها عنده مثمرا للعلم الضروري لم يصح التقسيم، لأن العلم لا يتفاوت في نفسه، وقد قدمنا فيما سلف أنه لا تفاوت بين العلم الضروري والنظري في نفس تعلقهما بالمعلول على ما هو به، فكيف بعلوم ضرورية؟ تلك أبعد من أن تتفاوت في نفسها في تعلقها بالمعلوم على ما هو به، وقد ذكرنا عنه أنه أضاف القول الذي قال به إلى مالك رضي الله عنه، وذكر أنه نص عليه، ونحن لم نعثر على هذا النص، ولعله رحمه الله، رأى لمالك مقالة تشير إلى هذا، ولكنها متأولة، فقدرها نصا، فكيف وحذاق أصحابه رضي الله عنهم يعتذرون عن قوله: إن الصغير إذا بلغ وقام له شاهد بأن لأبيه على رجل دينا، فإنه يحلف معه ويقولون: كيف استجاز رضي الله عنه أن يبيح للصغير الحلف على مغيب لا يعرف صحته ويقول في يمينه: لقد شهد شاهدي بالحق، وهو مع هذا يجوز أن يكون الشاهد كذب، ويقولون: إنما يحلف الصغير إذا تواتر عنده الخبر، حتى علم صدق الشاهد، ويشيرون إلى حمل كلام مالك رضي الله عنه على هذا؛ ولو كان عندهم أنمالكا رضي الله عنه يرى أن خبر الواحد يقتضي العلم لم يفتقروا إلى هذا التأويل المستنكره، ولقالوا: إنما سوغ اليمين لكون الصغير عِلمَ ضرورة صدق شاهده.

<<  <   >  >>