النبي عليه السلام خبر الأعرابي بالهلال. فأنت تراه كيف أشار إلى إجماع الصحابة بعكس ما أشار إليه أبو المعالي، فأولى أن نعتمد على طريقة أخرى فلنقول: إن العمل بخبر الواحد لا توجبه العقول، فإنما صرنا إليه لأجل دلالة السمع عليه، والمعتمد في الدلالة السمعية إجماع الصحابة على العمل به، ولم يثبت إجماعهم على العمل إلا بخبر العدل، وأما خبر المستور فلم يثبت عنهم فيه إجماع، فإذا فقد الدليل على العمل به، لم يجب العمل به، إذ لا يجب العمل إلا بدليل سمعي.
وقد ذكر أبو المعالي أن الواجب عنده التوقف عن إمضاء خبر المستور أو رده، حتى يبحث عنه، ولكن أيام البحث عنه يجب أن يكف عن الفعل إن تضمنت روايته تحريم ذلك الفعل، فإذا أيس من العلم بحاله، والاطلاع على عدالته أو فسقه، لم يتأبد وجوب الكف، لكن ينتقل الحكم بعد الإياس إلى الكراهية للإقدام على الفعل، ويشير إلى أن الصحابة كانت تكف عن الفعل حتى تبحث عن حال الراوي.
وبالجملة فالأظهر عندي في هذا الذي قاله من الكف أن يناط الحكم فيه باجتهاد سامع الخبر، وما يتوسم من حال المخبر، وينقدح في نفسه من صدقه أو كذبه، وحال الفعل، ومشقة الكف عنه أو سهولة ذلك عليه، وقوة التحريم الذي رواه أو ضعفه، وملاحظة أصول الشرع لخبره بقوة أو ضعف، إلى غير ذلك مما يعلمه المجتهدون.
والقاضي أبو بكر بن الطيب ممن ينصر نفي وجوب العمل بروايته، ومما اعتمد عليه فيه أن الحدود لا تقبل فيها شهادة المستور فتقاس الرواية عليها، وأشار إلى الاتفاق على أن الشهود إذا نقلوا عن شهود آخرين ولم يعدلوهم، ولا يعلم القاضي حالهم، فإن الشهادة غير مستقلة، وإن كان الناقلون عدولا، وما ذاك إلا لأن ظاهر الإسلام لا يكفي في القبول للرواية دون حصول العدالة، ولو اكتفي بظاهر الإسلام لقضي بشهادة هؤلاء الناقلين عن قوم مجهولين، ولا يدفع هذا الاستدلال إلا أن يكون الناقلون علموا فسق المنقول عنهم، لأن الأصل عند هؤلاء عدم الفسق، واستصحاب البراءة من المعاصي، وهذا الذي استدل به القاضي لا يستقل دليلا في المسألة، لأنه قياس فقهي فلا يستدل به، إلا أن تعد هذه المسألة من مسائل الاجتهاد.
وقد رأيت الشيخ أبا بكر بن فورك في كتابه في الأصول حكى عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أنه صار إلى أن الراوي إذا نقل عن مجهول عمل بخبره. قال: وكذلك عنده إذا شهد عدول على شهادة قوم مجهولين، فإن الشهادة يقضي بها. فأنت ترى مخالفة ابن فورك للقاضي فيما أشار إليه من الاتفاق.