والأشهر عن القاضي عندنا أنه يرى ترك المكاشفة في التعديل والتجريح، إذا وثق بعلم العدل والمجرح، وعرف كونهما عارفين بأسباب التعديل والتجريح. وهذا الاشتراط للمعرفة في المعدل والمجرح تعرض إليه القاضي كما ذكرناه وأبو المعالي، وما رواه مما يخالفان فيه، ولا يحسن أن يذهب محصل إلى قبول ذلك مطلقا من رجل غمر جاهل لا يعرف ما يجرح به ولا ما يعدل به، وإنما يحسن الخلاف إذا وقع ذلك من عالم.
وقد اعتمد من أوجب الاستفسار في التعديل والتجريح بما يدخل ذلك لما تقرر اختلاف العلماء في أمور كثيرة، هل يقع بها التجريح أم لا؟ وفي حقائق التعديل، وفي التعويل فيه على مجرد ظاهر الإسلام خاصة، وإن أمكن أن يصير المعدل أو المجرح إلى مذهب يخالف مذهب السامع له، وجب على السامع لخبره أن يكاشفه عن ذلك حتى يرى ما عوّل عليه؛ هل أصاب فيه عنده أم أخطأ، فهذه عمدة أصحاب هذه المذاهب.
وعمدة الآخرين أن الحاكم يجب عليه قبول شهادة الشاهد، بأن فلانا عقد نكاح فلاننة، أو اشترى دار فلان، ويقضي بهذه الشهادة، وبإمضاء النكاح والبيع، مع اشتهار اختلاف العلماء في عقود الأنكحة والبياعات، ومع تجويز القاضي إذا كان مالكيا أن يكون الشاهد حنفيا يرى صحة النكاح من غير ولي، وكذلك إذا كان القاضي شافعيا يرى أن من شرط انعقاد النكاح حضور شاهدين، ويجوز أن يكون الشاهد مالكيا يرى صحة انعقاده مع عدم الشهادة، وكذلك إذا شهد عنده بيع داره، وكان الشاهد مالكيا يرى جواز بيع الغائب على الصفة.
ثم مع هذا الاحتمال والتجويز يقضي القاضي بالشهادة غير ملتفت إلى هذا التجويز، فكذلك ما قوع من الخلاف في التعديل والتجريح، ولا يوجب ذلك مكاشفة المعدل والمجرح. وقد اشتهر الخلاف في مسألة المدونة فيمن شهد أن فلانا مولى فلان، لا يعلمون له وارثا غيره، فأوجب أصحاب مالك استفسار الشهود إذا حضروا، هل هو مولى أعلى، أو مولى أسفل. وصرح بعضهم بأنهم إذا غابوا وتعذر استفسارهم قضى له بالميراث جريا على ما قلناه من حمل الشهادة على ما يفيد، واجتناب تعطيلها بالتجويز.
وأما من فرق بين التعديل والتجريح فإنه يعول على أن التجريح تمكن العبارة عنه بلفظ وجيز، فيقول: رأيته سرق أو سكر من الخمر، والتعديل تكثر أسبابه وتطول العبارة عنه، فدعت هذه الضرورة إلى ترك المكاشفة. هذا والاختلاف في معاصٍ تجرح أشد إشكالا من الاختلاف في حقائق العدالة.
وأما ما ذكره أبو المعالي عن القاضي من عكس هذا المذهب، فإنه اعتمد على أن المعتبر في قبول الخبر الثقة به، والإخبار بالتجريح على الجملة يخرم هذه الجملة، ويمنع من سكون النفس إلى خبر هذا المجرح على الجملة، وكل ما خرم الثقة فإنه يقتضي رد