للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد اختلف الناس في هذا اللفظ؛ هل يحمل على أن المراد به سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتنزل ذلك منزلة قوله صلى الله عليه وسلم، أو يتردد هذا اللفظ بين أن يكون قائله أراد به سنة النبي عليه السلام أو سنة غيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم؟ واختلف قول الشافعي فيه، فقال في القديم "الظاهر من هذا الاحتمال أن المراد به سنة النبي عليه السلام، وقال في الجديد: هو محتمل، ولم يره مسندا.

وذكر القاضي أبو محمد عبد الوهاب أن أصحابنا وأصحاب الشافعي مختلفون فيه، وينبغي لك أن تحقق أن منشأ الاختلاف راجع إلى تنازع في معهود المعتاد من الرواية، فمن جعلهذا اللفظ كالمسند إلى النبي عليه السلام، فلا تعويل له إلا على أنه هو المفهوم في (ص ٢٣٥) عرف التخاطب، وما مراد الصاحب به إلا أن يجعل ما ذكر حجة وشرعا، ولا يحصل له هذا الغرض إلا أن يضيف ذلك إلى النبي عليه السلام، ويؤكد عنده ما ادعاه من هذا العرف قول الناس، الكتاب والسنة، ولا يريدون بالكتاب إلا القرآن، مع كون ما سواه من الكتب يسمى كتابا، فكذلك لا يريدون بقولهم: السنة إلا قول النبي عليه السلام أو فعله، فوجب حمل هذا الإطلاق على العرف، وإن كان محتملا من ناحية اللغة، لأن السنة في اللغة هي الطريقة، وسنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما طريقتهما، وقد قال عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي".

وأبي المحققون من هذا وأنكروا أن يكون العرف اطرد بها اطرادا يقتضي ألا يفهم عن قائله إلا الإشارة بما قال النبي عليه السلام، وكل مفت تنسب فتواه إلى شريعة النبي عليه السلام، سواء كانت فتواه عن نقل أو عن استنباط، وقد يقول الفقيه في فتواه: هذا هو الحق، وهذا هو الشرع، وكذلك أيضا قد يقول: هو السنة، ومراده أنه مستنبط من سنة النبي وطريقته.

ونصر أبو المعالي كون اللفظ مترددا، ومنع من إلحاقه بالمسندات، ولم يبسط القول فيه، ولكن فلتعلم أنت أن الصاحب إذا قال: أمر النبي عليه السلام بكذا وكذا، فإن الجمهور من العلماء على أن ذلك مقبول معمول به. وذهب داود وابنه إلى أن ذلك لا يعمل به حتى ينقل الصاحب لفظ النبي عليه السلام الذي ذكر الراوي أنه أمر، لجواز أن يعتقد كون النبي عليه السلام أمر من لفظ سمعه منه، لو عرضه علينا لخالفناه في اعتقاده فيه، ورأيناه محتملا، وأيضا فقد يكون نقل الأمر عن غيره، فيصير الحديث مرسلا، وهذا الاعتلال الثاني إنما يصح على طريقة من قال: مراسيل الصحابة رضي الله عنهم لا تقبل، ويراهم كغيرهم في الإرسال، ويرى هذا

<<  <   >  >>