يصح أن يكون هذا الجزئي والمقدار من الفيض الذي يعلم به ما تحته، يعلم به ما هو فوقه (...) لو عقل به ما فوقه، بما انحل منه، وهو العقل الكلي، وأحاط بجميعه، لصار كليا مثله.
وهذا تناقض، وليست هذه العبارة بمجردها مستنكرة عند أهل الإسلام كما قال أبو المعالي بل هي مستنكرة عندهم لفظا ومعنى، وقد كشفنا لك مقاصدهم بهذه كشفا يعرف منه استنكار معانيها عند المسلمين، ونحن إنما نحيل ما أحالوه، وذلك أنا نقول: قد تقرر في كتب علم الكلام أن الإنسان لا يعلم معلومين غير متلازمين بعلم واحد، بل يفتقر في كل معلوم إلى علم به، فإذا علم مسألة، ومعها مسائل، فلكل مسألة علم، وإذا ثبت أنه لابد لكل معلوم من علم، فإنما نحيل أن يعلم الإنسان معلومات لا نهاية لها على التفصيل، لأن ذلك لو جوزناه اقتضى أن يخلق في قلبه علوم لا تتناهى في زمن متناه، وخلق ما لا يتناهى في زمن متناه، [محال] لأن وصفنا الزمن بالتناهي يتضمن جواز خلق شيء آخر بعده، وقد قلنا: إن المخلوقات لا تتناهى، فأثبتنا التناهي فيها بتناهي الزمن ثم نفيناه عنها، لما قلنا إنها لا تتناهى، وهذا الوجه خاصة هو الذي نحيل أن يعلمه الإنسان.
وأما معلومات لها نهايات، وإن كثرت حتى يعجز أن يعدها منا العادون، فإن خلقها في الإنسان جائز، سواء كانت معلومات لعدم، أو لوجود، وسواء كان الوجود نفسه، أو من سواه من مركب أو بسيط أو روحاني أو كثيف على ما يهتفون به في تقاسيمهم، ولا فرق بين معلوم ومعلوم في هذا، ومن قدر على العلم بجوهر، قدر على خلق العلم بجوهر آخر، ومن قدر على خلق العلم بعرض قدر على خلق العلم بعرض آخر، وحصر هذا بعد لا سبيل إليه، إذ ليس لقائل أن يتحكم بالوقوف عند عدد، إلا وللآخر أن يزيد عليه، أو ينقص منه، لكن إن خرج بالزيادة إلى ما لا يتناهى فهو المحال، خاصة، لما قدمناه، وهذا أوضح من فلق الصبح.
وقد عبر أبو المعالي عبارة عن هذا الدليل، وأخذ بعض ألفاظنا فيه فأشار إلى كون الإنسان متناهيًا، وتناهيه يمنعه أن يحيط بما لا يتناهى، ونحن إنما جعلنا العلة تناهي الزمن، لما أريناك من تضمنه للتناقض.
وأما تناهى جرم العالم فلا مدخل له هاهنا، ولا مناسبة بينه وبين ما أشرنا إليه من التناهي إلا من ناحية الألفاظ والعبارات، ولو جوزنا خلق ما لا يتناهى في الزمن المتناهي لجاز أن يعلم الإنسان معلومات لا تتناهى، ولو كان في نفسه متناهيا ولا التفات إلى ما