للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لحم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو نصورية وبها سميت النصارى، ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى وندمان- أو جمع نصرى- كمهرى ومهارى- والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم فَنَسُوا على إثر أخذ الميثاق حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل:

هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة فَأَغْرَيْنا أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره:

غريت به غراء بالمد، وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: بَيْنَهُمُ ظرف- لأغرينا- أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ كائنة بينهم.

قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية: واليعقوبية، والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير بَيْنَهُمُ إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج والطبري، وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه وَسَوْفَ لتأكيد الوعيد يا أَهْلَ الْكِتابِ التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ حال من رَسُولُنا وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام،

وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل (١) فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية»

وتأخير كَثِيراً عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، ومِمَّا متعلق


(١) أي رعدة اه منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>