بمحذوف وقع صفة- لكثيرا- وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، ومن الْكِتابِ حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر- كما قال الشهاب- لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب قتادة، واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين، واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: وَكِتابٌ مُبِينٌ لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل، والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم فيهدي به إلى آخره ويرجع إلى قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ويخرجهم إلخ يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ويهديهم يرجع إلى قوله عز شأنه: وَكِتابٌ مُبِينٌ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢] انتهى.
وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيا عليهم.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة.
وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من رَسُولُنا بدلا من يُبَيِّنُ وأن تكون حالا من الضمير في يُبَيِّنُ، وأن تكون حالا من الضمير في مُبِينٌ، وأن تكون صفة لنور مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، ومَنِ موصولة أو موصوفة سُبُلَ السَّلامِ أي طرق السلامة من كل مخافة- قاله الزجاج- فالسلام مصدر بمعنى السلامة.
وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] .
وقيل: إنها بدل من- رضوان- بدل كل من كل، أو بعض من كل، أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها