قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك،
وأخرج الترمذي في نوادر الأصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا
ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب رَبَّنا بدلا أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللَّهُمَّ لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة.
وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى مِنَ السَّماءِ متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه.
ويؤيد الثاني ما
روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر،
وقوله تعالى تَكُونُ لَنا عِيداً صفة مائِدَةً ولَنا خبر كان وعِيداً حال من الضمير في الظرف أو في تَكُونُ على رأي من يجز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون عِيداً الخبر ولَنا حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من عِيداً لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى:
فواكبدي من لاعج الحب والهوى ... إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه- كما قال ابن هشام- بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم. هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا