فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسأل الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر.
وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز قُلْ والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولا نافية للجنس، وكاشِفَ اسمها ولَهُ خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع فَلا كاشِفَ أو من الضمير في الظرف، ولا يجوز- على ما قال أبو البقاء- أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه.
وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز وجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه الجملة
إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بينما أنا رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا»
فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عز وجل.
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل: إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل: إن فَوْقَ زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل،
وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله»
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي استشفع بالله