فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام، نعم إن ابن هشام وكثيرا من النحاة لم يعتبروا هذا القيد، وقالوا: إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه. ومن الناس من قال: إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن فَتَنَّا متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب.
واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضا استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال: في الفرق أن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال: إن أفعال الله تعالى لا تعلل: وحينئذ يصح أن يقال: إن اللام على تقدير تضمين فَتَنَّا معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا واقتضاء فقد من دون بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا. والحاصل أن كلّا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه.
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الأنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة بأعلم ويكفي أفعل العمل في مثله. وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به، والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا أنعامه عز وجل عليهم، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر.
وأخرج عبد بن حميد، ومسدد في مسنده، وابن جرير، وآخرون عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم فقرأها عليهم.
وروي عن أنس مثل ذلك،
وقيل: لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان.