مشترك الإلزام فإنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر: فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيي السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد أخبار المخبر الصادق. ولا يخفى ما فيه، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى:
أَنْ تَقُولُوا ليس مفعولا لا لقوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرع عليه من قولهم بَلى شَهِدْنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال: هذا على تقدير كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في أَنْ تَقُولُوا ولا محذور أصلا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى.
ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق أَنْ وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في إِذْ واضح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالإشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ما ذكره ثانيا من كون شَهِدْنا من كلام الله تعالى وكونه العامل ما
أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك. وعن أبي طالب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية: لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى: أَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: ٢٧] وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة:
٤١] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال: هو والملائكة شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ الحديث،
وفيه مخالفة لما روي عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي بعض الأخبار ما يقتضي أنه كان إذ كان عرشه سبحانه على الماء،
فقد أخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال:
يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى»
فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرما، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه ذهب السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع، فقد قال بعضهم: رأيت من يستحضر قبل ميثاق أَلَسْتُ ستة مواطن أخرى ميثاقية