وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد أثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل، والخوف مستعار للعلم، أي وإما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم عهدهم، وفيه استعارة مكنية تخييلية عَلى سَواءٍ أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، فالجار والمجرور متعلق وقع حالا من المستكن في «انبذ» أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء، وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا، أي حال كونهم كائنين على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأدناهم، أو حال كونك أنت وهم على استواء في ذلك، ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهورا مقطوعا به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر، ولهذا غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم منها» .
وجوز أن يكون تعليلا لذلك باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثّا له صلّى الله عليه وسلّم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم، والأول هو المتبادر، وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا بياء الغيبة وهي قراءة حفص. وابن عامر وأبي جعفر. وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم إنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها الأولان أيضا، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: أنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم.
والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكي عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وأن سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود أنهم سبقوا.
واعترضه أبو البقاء وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير- كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه- ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه.
وقرأ من عدا من ذكر تحسبن بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له حظ في الخطاب والَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولاه ولا كلام في ذلك.
وقرأ الأعمش «ولا تحسب الذين» بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف. وقرأ