للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه السلام، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق- برؤياي- وجوز تعلقها بتأويل- لأنها أولت بهذا قبل وقوعها، وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من رُءْيايَ وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صدقا، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و «حقا» في معنى تحقيق، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة وَقَدْ أَحْسَنَ بِي الأصل كما في البحر أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: ٧] وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: ٨٣، الأنعام: ١٥١، الإسراء: ٢٣] وكقول كثير عزة:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت

وحمله بعضهم على تضمين أَحْسَنَ معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف إلا أن بعضهم أنكر تعدية- لطف- بالباء وزعم أنه لا يتعدى إلا باللام فيقال: لطف الله تعالى له أي أوصل إليه مراده بلطف وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعول، وقيل: الباء بمعنى إلى، وقيل: المفعول محذوف أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين، وقوله: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ منصوب- بأحسن- أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج من السجن بعد أن ابتلي به وما عطف عليه وإذا كانت ظرفية فهو غيرهما، ولم يصرح عليه السلام بقصة الجب حذرا من تثريب اخوته وتناسيا لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا ولأن الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي البادية، وأصله (١) البسيط من الأرض وإنما سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه ثم أطلق على البرية مطلقا، وكان منزلهم على ما قيل: بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب إبل وغنم، وقال الزمخشري: كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع. وزعم بعضهم أن يعقوب عليه السلام إنما تحول إلى البادية بعد النبوة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من البادية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان يعقوب عليه السلام قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها: قال ابن الأنباري: إن بدا اسم موضع معروف يقال: هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل (٢) بقوله:

وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما


(١) وأصل البدو مصدر بدا يبدو مصدر بدوا ثم سمي به اه منه.
(٢) وقيل كثير عزة اه منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>