للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: أغاروا إذا أتوا الغور، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون (١) كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي أفسد وحرش، وأصله من نزغ الرابض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته وإلقائه، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا، وذكره تعظيما لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا. واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال: اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد، فاللام متعلقة- بلطيف- لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد، وقال بعضهم: إن المعنى لأجل ما يشاء، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا ما في ذلك إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره.

روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال:

أمرني جبريل قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط مني إليه فسأله قال جبريل عليه السلام: الله تعالى أمرني بذلك لقولك:

وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: ١٣] قال: فهلا خفتني

وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته. وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحي إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الأنبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا إلى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره؟.

وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل:

ثماني عشرة سنة، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة، وعن حذيفة أنها سبعون سنة، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين، قال ابن شداد: وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا عظيما منه- فمن- للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام، وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن الْمُلْكِ ما يعم مصر وغيرها، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ


(١)
وفي الحديث من يرد الله تعالى به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة

اه منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>