للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف: ٥٦] لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه وفيه تأمل، وقيل: أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته، وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من ذلك كذلك، والمراد بتأويل الأحاديث إما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل (١) . وقرأ عبد الله وابن ذر «آتيتن وعلمتن» بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة، وحكى ابن عطية عن الأخير «آتيتني» بغير «قد» فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما، ونصبه على أنه نعت- لرب- أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادى ثان، ووصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله: أَنْتَ وَلِيِّي متولي أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فالوالي إما من الولاية أو الموالاة، وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطى لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي أقبضني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي على ما روي عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، وقال الإمام: هاهنا وهاهنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى. وهو كما ترى، والحق أن يقال: إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه. بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمني للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمني لذلك، قال الإمام: ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه، وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق


(١) إشارة الى ما قيل: إنه لا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع هاهنا فمجرد التأخير في الذكر والعطف بالواو لا يستدعي ذلك الترتيب في الوجود فافهم اه منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>