الموصول عدم استطاعة موسى عليه السّلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السّلام وعتاب، ويجوز أن يقال: إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه، وصَبْراً مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة.
أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقها فَكانَتْ لِمَساكِينَ لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول: إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه.
وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور، وادعى من يقول: إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها، وقيل: كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل، وقيل: إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لِمَساكِينَ بتشديد السين
جمع تصحيح لمساك فقيل: المعنى لملاحين، وقيل: المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك، وقيل: المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج، وعلى ذلك جاء قول لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقول سوار بن المضرب السعدي:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقول الآخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي
وفي القرآن كثير أيضا، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا: هي من الأضداد، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري: إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، وقال البيضاوي ما حاصله: إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ [الحديد: ١٣] فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف.
وقال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل