كما تقدم: والمراد وأني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى مِنْ وَرائِي من قدامي وقبلي، والمراد وأني مات الموالي القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقوى واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى من يعتضد به، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك.
وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها، فالعقر بالفتح والضم العقم، ويقال عاقر للذكر والأنثى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت وَلِيًّا أي ولدا من صلبي وهو الظاهر، ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه السّلام قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: ٣٨] وقيل إنه عليه السّلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره، وقيل: أنه عليه السّلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه. وزعم الزمخشري أن مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بحزالة النظم الكريم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السّلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السّلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة.
وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى، وهو مبني على القول الثاني في المراد من فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا والأول أولى.
ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعا من مشاهدته عليه السّلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ الآية. وعدم ذكره هاهنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها هاهنا، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية، وقوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ صفة لوليا كما هو المتبادر من الجملة الواقعة بعد النكرات، ويقال: ورثه وورث منه لغتان كما قيل، وقيل من للتعبيض لا للتعدية، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، ويعقوب على ما روي عن السدي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي ابن يعقوب وكان متزوجا بأخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السّلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا. وقال الكلبي ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم.
وقيل: هو أخو زكريا عليه السّلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل.
وقال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السّلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في الموضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول، وقيل الوراثة الأولى وراثة النبوة والثانية وراثة الملك فتكون مختلفة أيضا إلا أن قوله وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا عندك قولا وفعلا، وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي