وَاسْمَعُوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: ٩٣] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم.
وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس- فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان- ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الودّ محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها ومِنْ للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، ولَا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: ١] لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في لَمْ يَكُنِ وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل: نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول: بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له- إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير- مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرىء «ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ في موضع النصب على أنه مفعول يَوَدُّ وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد مِنْ خَيْرٍ في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ الوحي وهو قائم مقام الفاعل، ومِنْ صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي.
مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الصفة للخير، ومِنْ ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى