ضمير المخاطبين لتشريفهم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم، وفي إقامة لفظ- الله- مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته، ومِنْ مفعول، وقيل: الفعل لازم، ومِنْ فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عاما وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم.
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا- والنسخ- في اللغة إزالة الصورة- أو ما في حكمها- عن الشيء، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان- ومن استعماله في المجموع التناسخ- وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا- وهو أولى من الاشتراك- ولذا رغب فيه الراغب، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر، ونسخ الآية- على ما ارتضاه بعض الأصوليين- بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد منها كآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: ٢٤٠] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع، ورفع بالنسبة إلينا، وخرج بقيد التعبد الغاية، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم- لا للتعبد به- واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ- وقد وقع هذا- فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره،
فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال:«نسخ البارحة من الصدور»
وروى مسلم عن أبي موسى: إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني حفظت منها
«لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب»
وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: ٦] وهو مذهب الحسن، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: ٨٦] فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله تعالى عليه