وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السّلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر.
فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: ٢٠] وقول المتنبي يصف الخيول:
فمرت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والرؤوسا
والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل،
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السّلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبر الله تعالى به.
وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال: إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها: قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال: يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر:
فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول: إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء؟ قال: لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت:
ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت (١) تلك البلاد أدركها النفاس
فكان ما قص سبحانه، وقيل: انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة، وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى ألجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى:
وجار سار معتمدا عليكم ... أجاءته المخافة والرجاء
قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يخفى رده والْمَخاضُ بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج، وقرأ الأعمش وطلحة «فاجاءها» بإمالة فتحة الجيم، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم فَأَجاءَهَا من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا، وقال صاحب اللوامح: إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة.
إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك
(١) قوله قال كاف هاد إلخ كذا بخطه ولم يذكر اسما أوله الياء وانظره اه منه: