واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السّلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني آتانِيَ الْكِتابَ الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وجعلني مع ذلك مُبارَكاً قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان: معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة أما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السّلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله آتانِيَ الْكِتابَ أَيْنَ ما كُنْتُ أي حيثما كنت وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن- أين- لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما أمرا مؤكدا والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السّلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر، وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بايجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل بحمل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد أَوْصانِي بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه ما دُمْتُ حَيًّا مدة كونه عليه السّلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام هناك كذا قيل.
وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسّلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السّلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا «دمت» بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة وَبَرًّا بِوالِدَتِي عطف على «مباركا» على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل وبالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السّلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السّلام. وقرىء «برا» بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السّلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى أَوْصانِي أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب علفتها تبنا وماء باردا وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه.
وجوز أن يكون معطوفا على محل بِالصَّلاةِ كما قيل في قراءة أَرْجُلَكُمْ [المائدة: ٦] بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرىء «وبرا» بكسر الباء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا، والتنكير للتفخيم وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السّلام يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر