وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في البحر، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وَعَسى الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال: إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: ٥] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ
أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال: اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه: وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشَّهْرِ الْحَرامِ ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة- مكة الحرام- فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال:
سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين، وفي سيرة ابن سيد الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي