الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل مسكر خمر» .
وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والْخَمْرِ ما خامر العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الْخَمْرِ من هاتين الشجرتين،- وأشار إلى الكرم والنخلة- وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البسر والتمر، ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام- كالخمر- وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد- لا تعليم اللغات العربية- سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها، وما يقال: إنه مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف- لا لكل ما ظهر- وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال: إن الْخَمْرِ حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره، أكفروا مستحل الأول، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا: إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال: إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر- وكذا قليله ولو قطرة- ويحد شاربه مطلقا،
وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها وكثيرها سواء»
والسكر من كل شراب، وقالوا: إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة- لا لرفعها بعد ثبوتها- إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة- وهذا قد طبخ- وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة- ويسمى الباذق- والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة: إنه مباح لأنه مشروب طيب- وليس بخمر- ولنا أنه رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به، وأما نقيع التمر وهو السكر- وهو النيء من ماء التمر- فحرام مكروه، وقال شريك: إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل: أراد بها التوبيخ أي «أتتخذون منه سكرا، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع الزبيب- وهو النيء من ماء الزبيب- فحرام إذا اشتدّ وغلى، وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل، والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضا، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال:
وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ... طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر
وعن كلهم يروى، وأفتى محمد ... بتحريم ما قد- قلّ- وهو المحرر
وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام- وقليله ككثيره- ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.