صلّى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلّا نحو من العزل وعزل النبيّ عن النبوة غير جائز في حكمته عز وجل، والنبيّ عليه الصلاة والسلام أعلم بذلك ويعلم صلّى الله عليه وسلم أيضا أن إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة. وأجيب بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلّى الله عليه وسلم بضرب من التأويل كأن يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين، أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي. وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي إتعاب الذهن بتأويلها. ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها.
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال: أبطأ جبريل عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت وَالضُّحى وَاللَّيْلِ
إلى آخرها، والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلّا من قلى ربك إياك وحاشى أن يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه.
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «ما جئتني حتى اشتقت إليك» فقال جبريل عليه السلام:
كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ
[مريم: ٦٤]
وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة.
وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة والسلام والروايات في ذلك مختلفة، وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم إنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى.
وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلى أنه عز وجل لا يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلّى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عند ما أعدّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين، وكون أمته صلّى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلّى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادئ بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعدّ له عليه الصلاة والسلام خير من المعدّ لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلّى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه، وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وغيره. وقال ابن عطية وجماعة:
يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلّى الله عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة. وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول
أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرض عليّ