بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخرة قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي الحق، أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة فَقُلْ تَعالَوْا إلخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة.
قال بعض العارفين: اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه، كالغضب، والخوف، والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى.
وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد- وفيه كلام طويل- ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه، هذا وتطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول، والله تعالى الموفق.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت في وفد نصارى نجران- قاله السدي، والحسن، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير- وروي عن قتادة، والربيع، وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة. وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب، واستظهره بعض المحققين لعمومه تَعالَوْا أي هلموا إِلى كَلِمَةٍ أي كلام- كما قال الزجاج- وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء، وقيل: إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد- وقرىء كَلِمَةٍ بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل سَواءٍ أي عدل- قاله ابن عباس، والربيع، وقتادة- وقيل: إن سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت- لكلمة- وقرئ بنصبه على المصدر.
بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ متعلق بسواء أَلَّا نَعْبُدَ أي نحن وأنتم إِلَّا اللَّهَ بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، وفي موضع أن وما بعدها وجهان- كما قال أبو البقاء- الأول الجر على البدلية من كَلِمَةٍ، والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله، ولولا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية، وقيل: إن الكلام تم على سَواءٍ ثم استؤنف فقيل: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أن لا نعبد، فالظرف خبر مقدم، وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة، وقيل: المراد لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الشرك وهو بعيد جدا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى- قاله ابن جريج- ويؤيده ما
أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم «أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم