للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا وعرضا أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر.

وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك»

فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين، ولهذا قيل: ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضا إلى ما يجرّهم إلى الجنة، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار، ومن هنا قيل: ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم، وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال أو لأنهم في مقام توحيد الصفات وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ حسب مراتبهم في الإحسان وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وهي رؤية الأفعال، أو النظر إلى سائر الأغيار إِلَّا اللَّهُ وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا في غفلتهم ونقص حق نفوسهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه وَجَنَّاتٌ أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية خالِدِينَ فِيها بلا مكث ولا قطع، ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد فَسِيرُوا بأفكاركم فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا وتأملوا في آثارها لتعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب، ويحتمل أن يكون هذا أمرا للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها هذا أي كلام الله تعالى بَيانٌ لِلنَّاسِ يبين لهم حقائق أمور الكونين وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ يتوصل به إلى الحضرة الإلهية لِلْمُتَّقِينَ وهم أهل الله تعالى وخاصته.

واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول، ومنهم قوم يسمعونه

<<  <  ج: ص:  >  >>