بأسماع الأسرار، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه فشاهدوا أنوارا تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا في الجهاد وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الإخوان وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في الرتبة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ولم يبالوا مع أنهم دونكم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أي الوقائع نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوم لطائفة وآخر لأخرى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية وَيَمْحَقَ أي يهلك الْكافِرِينَ بنار أنانيتهم أَمْ حَسِبْتُمْ أن تدخلوا الجنة أي تلجوا عالم القدس وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي موت النفوس عن صفاتها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ بالمجاهدات والرياضات فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تعلمون أن ذلك الجهاد أحد أسباب موت النفس عن صفاتها، ويحتمل أن يقال: إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكة تمنى أمورا وادعى أحوالا حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه، ومن هنا قيل:
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ورجعتم القهقرى، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لفنائه الذاتي وَسَيَجْزِي اللَّهُ بالإيمان الحقيقي الشَّاكِرِينَ بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ هذا الموت المعلوم، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ومشيئته، أو جذبه بإشراق نوره وَمَنْ يُرِدْ بمقتضى استعداده ثَوابَ الدُّنْيا جزاء لعمله نُؤْتِهِ مِنْها حسبما تقتضيه الحكمة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ جزاء لعمله نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية، وأبهم جزاءهم للإشارة إلى أنه أمر وراء العبارة- ولعله تجلى الحق لهم- وهذا غاية متمنى المحبين ونهاية مطلب السالكين، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه وَكَأَيِّنْ كلام مبتدأ سيق توبيخا للمنهزمين أيضا حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس.
وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل: إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداء والنون أصلية، وإليه ذهب ابن حيان.
وغيره، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم، وقيل وهو المشهور: إنها مركبة من- أي- المنونة وكاف التشبيه، واختلف