ثم تمادى به الأمر، حتّى ذهب عقله، وهام مع الوحش، فكان لا يلبس ثوبا إلا خرّقه، ولا يعقل شيئا إلا أن تذكر له ليلى، فإذا ذكرت ثاب وتحدّث عنها لا يسقط حرفا.
فسعى عليهم نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك المجامع، فرآه عريانا يلعب بالتراب، فكساه ثوبا، فقال له قائل: وهل تدرى من هذا أصلحك الله؟ قال: لا، قال: هذا المجنون (قيس بن الملوّح) ، ما يلبس الثياب ولا يريدها، فدعا به فكلّمه، فجعل يجيبه عن غير ما يكلّمه به، فقالوا له: إن أردت أن يكلّمك كلاما صحيحا فاذكر له ليلى وسله عن حبّه لها، ففعل فأقبل عليه المجنون يحدّثه بحديثها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحبّ صيّرك إلى ما أرى؟ قال: نعم، وسينتهى بى إلى أشدّ مما ترى، قال أتحبّ أن أزوّجكها؟
قال: نعم وهل إلى ذلك من سبيل! قال: انطلق معى حتى أقدم بك عليها فأخطبها لك وأرغّب لك فى المهر، قال: أفتراك فاعلا؟ قال: نعم، قال:
انظر ما تقول! قال: علىّ أن أفعل بك ذلك، فارتحل معه، ودعا له بثياب فلبسها المجنون، وراح معه كأصحّ أصحابه، يحدّثه وينشده، فبلغ ذلك قومها فتلقّوه بالسلاح، وقالوا له: والله يا بن مساحق، لا يدخل المجنون منزلنا أبدا أو نموت، وقد هدر السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلمّا رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، قال المجنون: والله ما وفيت بالعهد، قال: انصرافك أيسر علىّ من سفك الدماء، فانصرف.
٩٨٦* وفى ذلك يقول:
يا صاحبيّ ألّما بى بمنزلة ... قد مرّ حين عليها أيّما حين
فى كلّ منزلة ديوان معرفة ... لم يبق باقية ذكر الدّواوين «١»