للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أكل، ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك يطلّ» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسجعا كسجع الكهّان» أي: أتتّبع سجعا كسجع الكهان «١» .

وكذلك كان الكهنة كلهم؛ فإنهم كانوا إذا سئلوا عن أمر جاءوا بالكلام مسجوعا، كما فعل الكاهن في قصة هند بنت عتبة، فإنه قال لما امتحن قبل السؤال عن قصتها: «ثمرة في كمرة» فقيل له: نريد أبين من هذا؟ فقال: «حبّة برّ في إحليل مهو» والحكاية مشهورة، فلهذا اختصرناها ههنا.

وكذلك قال سطيح؛ فإنه قال: عبد المسيح، جاء إلى سطيح، وهو موف على الضريح، لرؤيا الموبذان، وارتجاس الإيوان، وأتم الكلام إلى آخره مسجوعا؛ والحكاية مشهورة أيضا فلهذا اختصرناها.

فالسجع إذا ليس بمنهي عنه، وإنما المنهيّ عنه هو الحكم المتبوع في قول الكاهن؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أسجعا كسجع الكهّان» أي: أحكما كحكم الكهان، وإلا فالسجع الذي أتى به ذلك الرجل لا بأس به؛ لأنه قال: «أأدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، ومثل ذلك يطل» وهذا كلام حسن من حيث السجع، وليس بمنكر لنفسه؛ وإنما المنكر هو الحكم الذي تضمنه في امتناع الكاهن أن يدي الجنين بغرة عبد أو أمة.

واعلم أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام؛ والاعتدال مطلوب في جميع الأشياء، والنفس تميل إليه بالطبع، ومع هذا فليس الوقوف في السجع عند الاعتدال فقط، ولا عند تواطؤ الفواصل على حرف واحد؛ إذ لو كان ذلك هو المراد من السجع لكان كل أديب من الأدباء سجّاعا، وما من أحد منهم ولو شدا شيئا يسيرا من الأدب إلا ويمكنه أن يؤلف ألفاظا مسجوعة، ويأتي بها في كلامه، بل ينبغي أن تكون الألفاظ المسجوعة حلوة حادة طنّانة رنّانة، لا غثّة ولا باردة، وأعني بقولي غثة باردة أنّ صاحبها يصرف نظره إلى السجع نفسه من غير نظر إلى مفردات الألفاظ المسجوعة، وما يشترط لها من الحسن، ولا إلى تركيبها وما

<<  <  ج: ص:  >  >>