وثالثتها: أن أثبت لهؤلاء الذين ينتقصون من قدر آبائنا وينالون منهم أنّ لأولئك الآباء من المجد والمنزلة ما يفاخر به الأبناء؛ وليس يضير الغادة الهيفاء ضنانة أهلها وبخلهم ولؤم أنفسهم، ولا يغض من جمالها أن تظهر في أطمار مهلهلة ولكنّ على من تكون من نصيبه أن ينفض عنها غبار الإهمال، ويجلوها في فاخر الديباج؛ ليظهر له بديع ما أنعمها الله من فتنة وجمال.
ورابعتها: أن أنفي عن نفسي تهمة التقصير في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التساند والتضافر على إعادة رسومنا الدارسة إلى ما كانت عليه يوم كنا قادة الشعوب وسادة هذا العالم؛ وليس للبلاد العربية كلها من بدّ أن تسلك لوحدتها طريق الاتحاد في المشاعر والمعارف، وأقرب ما يصل بنا إلى هذه الغاية معاودة معارفنا القديمة مع اختيار أقربها إلى أنفسنا وقلوبنا في فروع العلم كلها.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أنبّهك إلى حقيقة قد تغفلها أو تتشكك فيها إذا عرضت لك؛ أحبّ أن تعلم أن الجهد الذي يبذله من يحقق كتابا من كتب أسلافنا لا يقل عن الجهد الذي يبذله مؤلف كتاب حديث، بل أنا أجاهر بأن جهد الأول فوق جهد الثاني، وفرق بين من يعمد إلى المعارف فيختار منها ما يشاء ويدع منها ما يشاء، ثم يعبر عما اختاره بالأسلوب الذي يرضاه، وبين آخر لا يسعه إلّا إثبات ما بين يديه بالأسلوب الذي اختاره صاحبه منذ مئات السنين، وهو بين عبارات شوّهها التحريف وغيّر الكثير منها تعاقب أيدي الكتاب والصفافين، وأكثرهم ممن لا يتصل بالعلم من قريب أو بعيد.
والكتاب الذي أضعه اليوم بين يديك هو كتاب «المثل السائر، في أدب الكاتب والشاعر» الذي صنّفه في علم البلاغة الأديب الكاتب أبو الفتح نصر الله ضياء الدين بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير؛ وهو كتاب «جمع فيه فأوعى. ولم يترك شيئا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره»«١» وهو كتاب امرىء: