للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو محتضن أحد ابني ابنته، وهو يقول: «والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون، وإنكم لمن ريحان الله، وإنّ آخر وطأة وطئها الله بوجّ» اعلم أنّ وجّا واد بالطائف، والمراد به غزاة حنين، وحنين: واد قبل وجّ؛ لأن غزاة حنين آخر غزاة أوقع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المشركين، وأما غزوتا الطائف وتبوك اللتان كانتا بعد حنين فلم يكن فيهما وطأة: أي قتال، وإنما كانتا مجرد خروج إلى الغزو من غير ملاقاة عدو ولا قتال، ووجه عطف هذا الكلام وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» على ما قبله من الحديث هو التأسّف على مفارقة أولاده؛ لقرب وفاته؛ لأن غزوة حنين كانت في شوال سنة ثمان، ووفاته صلّى الله عليه وسلّم كانت في ربيع الأول من سنة إحدى عشرة، وبينهما سنتان ونصف، فكأنه قال: وإنكم لمن ريحان الله: أي من رزقه، وأنا مفارقكم عن قريب، إلا أنه صانع عن قوله وأنا مفارقكم عن قريب بقوله «إن آخر وطأة وطئها الله بوج» وكان ذلك تعريضا بما أراده وقصده من قرب وفاته صلّى الله عليه وسلّم.

ومما ورد من هذا الباب شعرا قول الشّميذر الحارثي «١» :

بني عمّنا، لا تذكروا الشّعر بعد ما ... دفنتم بصحراء الغمير القوافيا «٢»

وليس قصده ههنا الشعر، بل قصده ما جرى لهم في هذا الموضع من الظهور عليهم والغلبة، إلا أنه لم يذكر ذلك بل ذكر الشعر، وجعله تعريضا بما قصده: أي لا تفخروا بعد تلك الواقعة التي جرت لكم ولنا بذلك المكان.

ومن أحسن التعريضات ما كتبه عمرو بن مسعدة الكاتب إلى المأمون في أمر بعض أصحابه، وهو: أما بعد؛ فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين ليتطوّل في إلحاقه بنظرائه من الخاصة، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفعين، وفي ابتدائه بذلك تعدّي طاعته، فوقّع المأمون في ظهر كتابه: قد عرفت تصريحك وتعريضك لنفسك، وقد أجبناك إليهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>