للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: نظريّ، والآخر: وضعيّ.

أما النظري: فهو أن الألفاظ إنما جعلت أدلة على إفهام المعاني» ولو كان ما ذهبت إليه صحيحا لكان البحر يطلق على هذا الماء العظيم الملح، وعلى الرجل الجواد، بالاشتراك، وكذلك الشمس أيضا؛ فإنها كانت تطلق على هذا الكوكب العظيم الكثير الضوء، وعلى الوجه المليح، بالاشتراك، وحينئذ فإذا ورد أحد هذين اللفظين مطلقا بغير قرينة تخصّصه فلا يفهم المراد به ما هو من أحد المعنيين المشتركين المندرجين تحته، ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك؛ فإنا إذا قلنا شمس أو بحر وأطلقنا القول لا يفهم من ذلك وجه مليح ولا رجل جواد، وإنما يفهم منه ذلك الكوكب المعلوم وذلك الماء المعلوم، لا غير، فبطل إذا ما ذهبت إليه بما بيّناه وأوضحناه.

فإن قلت: إن العرف يخالف ما ذهبت إليه؛ فإن من الألفاظ ما إذا أطلق لم يذهب الفهم منه إلا إلى المجاز دون الحقيقة، كقولهم الغائط، فإن العرب خصّص ذلك بقضاء الحاجة دون غيره من المطمئن من الأرض.

قلت في الجواب: هذا شيء ذهب إليه الفقهاء، وليس الأمر كما ذهبوا إليه؛ لأنه إن كان إطلاق اللفظ فيه بين عامة الناس من إسكاف وحدّاد ونجار وخباز ومن جرى مجراهم فهؤلاء لا يفهمون من الغائط إلا قضاء الحاجة؛ لأنهم لم يعلموا أصل وضع هذه الكلمة وأنها مطمئن من الأرض، وأما خاصة الناس الذين يعلمون أصل الوضع فإنهم لا يفهمون عند إطلاق اللفظ إلى الحقيقة لا غير، ألا ترى أن هذه اللفظة لما وردت في القرآن الكريم وأريد بها قضاء الحاجة قرنت بألفاظ تدل على ذلك، كقوله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط*

فإن قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط*

دليل على أنه أراد قضاء الحاجة دون المطمئن من الأرض، فالكلام في هذا وأمثاله إنما هو مع علم أصل الوضع حقيقة والنقل عنه مجازا، وأما الجهال فلا اعتبار بهم، ولا اعتداد بأقوالهم.

والعجب عندي من الفقهاء الذين دوّنوا ذلك على ما دوّنوه، وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>